على بعد خطوتين من بيتنا كانت توجد سينما بوليو. وكنت أدخل إلى بوليو كل يوم. أدخل إليها ما بعد الظهيرة، وأدخل في المساء، وأدخل بعد أن أؤدي ثمن التذكرة، وأدخل متسللا من باب خلفي، وأدخل تحت جلباب شخص يكبرني. وفي فترة ما تمكنا من صناعة تذاكر مزورة ودخلنا بها، ثم قلدنا توقيع الحاج مالك سينما بوليو، ودخلنا، قبل أن يفتضح أمرنا، ويقبض على واحد منا، ليتلقى علقة ساخنة من نفس الحاج ومساعديه. وكان هناك رجل طويل القامة يضربنا دائما ونحن ندخل، ويصفعنا في وجوهنا ونحن في صف أمام الباب، وكنا دائما نؤدي هذه الضريبة فرحين غير هيابين، من أجل تلك المتعة التي تمنحها لنا الأفلام. فيلمان في الحصة الواحدة، ويالها من فرجة. ينتهي الكاراتي، ويبدأ الأمريكي، وأحيانا الهندي، أو المصري. كنت صغيرا، وأكثر ما كان يعجبني هو ترينيتا البدين وترينيتا الصغير، وما لا أنساه هو فيلم الويسترن سباغيتي كيوما، والذي ما زلت لحد هذه اللحظة أتذكره، وأتذكر تلك الصرخة كيوما كيوما كيوما، حين كانت تدمع عيني من شده التأثر. وكي لا أكذب، فقد كنت مدمنا على أفلام ممثل إيطالي أحول، لا أتذكر اسمه، وكان يقدم دائما أشرطة كوميدية إيروتيكية من الدرجة الثالثة، مع بنات جميلات، يضربهن على مؤخراتهن، ويتلصص عليهن من ثقب الباب، فنرى نهدا ونرى عريا، وننتشي، ومنا من كان يفتح سحاب سرواله ويفعل فعلته في الظلام. في الليل كنت أدخل إلى سينما بوليو، وكانت هي بيتي الثاني، ولأني كنت طفلا، فقد نمت مرات كثيرة في البالكون، وكان أبناء حي المارشي لخضر الكبار يحملونني وأنا نائم إلى أمي. ومن المتع التي كنا نحرص عليها، هي أن تجلس عصابة الأولاد في الصفوف الخلفية، وفي واقت واحد، نفتح سراويلنا ونتبول ونشرشر، ونسمع خريرا وماء ينزل إلى تحت، حيث يجلس الكبار، ولا تزعجنا رائحة ولا بلل في أقدامنا. كانت قاعة سينما بوليو من أجمل القاعات التي شاهدتها، وكان لها باب في السقف، مفتوح على السماء، ويغلق مع بداية العرض. في غالب الأحيان، وبعد مشاهدتنا لفيلم كاراتي، كنا نخرج من سينما بوليو، ونحاول تقليد الحركات التي يقوم بها بروسلي أو غيره، ودائما كنت أعود بكدمات، بعد أن يجرب في أقراني مهاراتهم القتالية، لأني كنت الأهزل بينهم، ويستعملونني مثل كيس رمل يتدربون فيه ويلكمونه. ولم نكن نشعر بالملل ونحن أطفال في عين السبع، وإذا لم نكن في السينما نتفرج، فإننا نستغل وقتنا لنصطاد الثعابين والعقارب والفئران والزرموميات ورضاعة البقر، أو نرتمي في حاوية الأزبال الكبيرة التي كانت تتوفر على مالذ وطاب ولا تشبه حاويات الأزبال المنتشرة هذه الأيام. ولم نكن نقنع أبدا بسينما بوليا الموجودة في حينا، وبين الفينة والأخرى، كنا نخونها ونكتشف قاعات بعيدة، فنتفق ونتهيأ ونستعد، ونغامر بأرواحنا، ونذهب مشيا على الأقدام إلى الحي المحمدي صوب سينما السعادة أو شريف، كما كنا نقطع نفس المسافة تقريبا، في الاتجاه المعاكس، نحو حي البرنوصي لنكتشف سينما السلام. لكن لا سينما كانت مثل سينما بوليا. حتى عندنا أخذني شقيقي معه إلى سينما لارك، وأكلت النقانق، فقد ظلت بوليو بالنسبة لي هي السينما، أنام فيها وأتفرج وأتبول، وأدخل إليها بالمجان من الباب الخلفي، الذي لا يعرفه إلا أنا وعدد قليل من المقربين. الآن، صارت بوليو خرابة. ولم تعد هناك سينما السلام ولا سعادة ولا لارك. في معظم أحياء الدارالبيضاء كانت هناك قاعة سينما وكان جيلي يخرج من البيت، ويجد السينما تقترح عليه أن يدخل. في الأحياء الشعبية وفي مركز المدينة كانت السينما ضرورية، مثل البقال، ومثل المسجد، ولم تكن تضطر إلى أن تسافر كي تجد قاعة. ولمن أراد أن يفهم لماذا يطالب عدد من المغاربة بإعدام نبيل عيوش ولماذا يلتحق المغاربة بداعش ولماذا يمنع مصطفى الخلفي فيلما ويعتبر ما اقترفه قرارا سياديا ولماذا صار المغاربة متجهمين وعدوانيين فلينظر إلى كل هذه القاعات السينمائية المغلقة وليقدر حجم الحرمان الذي تعاني منه هذه الأجيال الجديدة التي ولدت بلا أحلام ولا متع ولا خيال ولم تجد سينما بوليو على بعد خطوتين منها بل أطلال فقط تذكر الناس بأن المغرب كان جميلا في الماضي وأفضل بكثير من حاضره ومن المستقبل.