أليس من سخرية الزمان أن تنقلب المقاييس والمعايير عند بعض الناس، وتُحَور الحقيقة وينتصر «التخربيق» و«لَغْميق»؟ سبحان مبدل الأحوال، إسمعوا معي وأنتم جالسين: «مصطفى الأبيض يرفع دعوى قضائية ضد وزارة الاتصال بسبب خروقات طلبات العروض التلفزيونية»، وصرح بدون أن يتحول لون وجهه من الأبيض إلى الأحمر قائلا «إنه لم ير المهنيون في القناتين مثل هذا الانحطاط الذي وقع هذه السنة... ومال الشعب يضيع بلا حسيب ولا رقيب...». وأضاف صاحبنا، دون أن يندى له الجبين، بأن لجان اختيار البرامج لاينتمي أعضاؤها إلى الميدان... هكذا إذن... فهذا ما نسميه بالقول والفعل «كلمة حق أريد بها باطل».
آخر من يمكنه الإدلاء بتصريحات هكذا، هو السيد الأبيض، الذي تابع مسيرة الضحك على الذقون التي بدأها التلفزيون في الشهر الكريم... لا يا أيها الأبيض، ما هكذا تورد الإبل؟ كنت من أكبر المستفيدين من صندوق العجب خلال سنوات وسنوات، وكانت الرداءة والزبونية وعدم الشفافية و«باك صاحبي»، وكان الارتجال، وكان السخط الجماهيري، وكان النقد اللاذع، وكانت لجان الاختيار والانتقاء، ولم تحرك ساكنا وهلم جرا.. واليوم، تطل علينا بالتصريحات من أجل الإصلاح بعدما كان فمك لا يُفتح إلا عند زيارة طبيب الأسنان.
كنا دائما وسنظل ننتقد السيد مصطفى الخلفي حين يفرض النقد وجوده بعيدا عن كل اعتبارات، أما اليوم، والحالة هذه، لا يسعنا إلا أن نقف بجانبه ضد هذه الدعوى التي نلخصها كأطفال صغار «لاعَبْ ولا مْحَرَّمْها».
وإذا علمنا علم اليقين ماذا قدمه السيد الأبيض للتلفزيون جزءا من الدهر لم يكن مسرورا، لدافَعْنا عن الشيطان حتى كما يقول الفرنسيون... برنامج «بلادي»، السيء الذكر، هو النموذج الأكبر... قيل إنه متعلق بشؤون الهجرة والمهاجرين، يبحث عن مغاربة الخارج نجحوا ماديا وماليا فقط، ويتبعهم بالكاميرا ويقولون أقاويل عن «نجاحهم» و«اندماجهم» و«حبهم للوطن الأم» و«تعليم اللغة العربية لأبنائهم»، وكل ذلك باحتضان مؤسسات بنكية فيها تدخل حساباتهم، وعلى الدنيا السلام.
برنامج يستفز شعور بعض الشباب المغلوب على أمره، ويحرك فيه الرغبة للحريگ والمغامرة بالذات، برنامج لا يعكس الصورة الحقيقية للأغلبية الساحقة من المهاجرين في الديار الأوربية، برنامج نخبوي، فولكلوري لا ندري من المستهدف به... برنامج بعيد كل البعد عن عمق المشاكل التي تتخبط فيها جاليتنا هناك وهناك، كثرة الأسفار، وكثرة الرحلات، وكثرة الفنادق الفخمة الراقية... فلماذا لم يتكلم صديقنا آنذاك عن الحسيب والرقيب؟
أم أن الانسان لا يمدح السوق إلا حين يربح فيها؟ ولا يهجوها إلا حين يخسر فيها؟ إذن على الإنسان أن يخجل، وأن يدخل «سوق رأسه» حين لا تحصل شركته على القبول و«سَدَّاتْ مَدَامْ».. هناك أناس التزموا الصمت بعد الرفض مع أنهم لم يشاركوا في انحطاط التلفزيون في الماضي البعيد أو القريب. أما أن يتهجم صاحب السوابق الرديئة على الكل وعلى الجميع، فهذا لا يقبله العقل، ويرفضه الضمير، ولكل حادث حديث...
كما اعتبروا أن تعامل مسؤولي قنوات القطب العمومي مع هذا الملف تعكس إصرارا على سوء التدبير وعدم القدرة على مسايرة المنعطف الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يعيشه المغرب حاليا. وأكدوا أن الإعلام السمعي البصري بالمغرب ما زال موجها ومهيمنا عليه.
وأجمع جل المتدخلين على رداءة جل ما قدم خلال رمضان من أعمال درامية تلفزيونية، كما استغربوا إصرار مسؤولي القنوات على برمجة الإنتاجات الكوميدية في أوقات الذروة وكأن كل هم الجمهور هو الضحك، مع تغييب للمسلسلات والبرامج الاجتماعية والوثائقية عن تلك الحصص الزمنية المهمة في المشاهدة. كما لاحظوا أن بعض الأعمال المغربية تحاول التأثير سلبا على هوية المشاهد المغربي، ولا تستثمر خصوبة وتنوع الإبداع والمتخيل المغربي في أعمال راقية.
واستنتج أحد المتحدثين عدم وجود تنوع في العرض التلفزيوني الخاص بقنوات القطب العمومي خلال رمضان، وغياب التكامل بين قنوات القطب العمومي على مستوى ما يقدم للمشاهد، مما يجعل نفس المواد تقدم في نفس الأوقات تقريبا: (الكاميرا الخفية، السيتكومات، الأفلام، النشرات الأخبارية...)، بالإضافة إلى تكرار نفس الوجوه تقريبا في المسلسلات والسيتكومات.
وأوصى المشاركون في المائدة المستديرة بمواصلة النضال من أجل حث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري على القيام بأدوارها المناطة بها في مراقبة التطبيق السليم لدفاتر التحملات من لدن مؤسسات القطب العمومي. كما أكدوا على حرص المجتمع المدني على مراقبة التطبيق السليم لدفاتر التحملات؛ مرحبين بالرغبة التي عبرت عنها هيئات وجمعيات معنية في الانضواء تحت لواء الشبكة المغربية للنهوض بالإعلام السمعي البصري. واقترحوا أيضا تشكيل لجان متخصصة في مؤسسات الإعلام السمعي البصري تهتم بتقييم الجوانب التقنية والفنية والإبداعية للمواد التلفزيونية، داعين إلى تحرير القطاع السمعي البصري وفتحه أمام المنافسة بين مؤسسات القطاع الخاص.
وكانت المائدة المستديرة قد استهلت بورقة تقديمية للجمعية المغربية لحقوق المشاهد أوضحت أنه بما أن الإنتاجات التلفزيونية الرمضانية بالمغرب لهذا العام هي نتيجة للتجربة الأولى المتعلقة بصفقات الإنتاج عبر طلب عروض، وأيضا للصيغة الجديدة من دفاتر التحملات الخاصة بمتعهدي الإعلام السمعي البصري العمومي، فإلى أي حد استطاعت أن تحقق تحولا إيجابيا ما، مغايرا لما ألفناه في السنوات السابقة؟
وأجابت الورقة بالنفي، قائلة: «كل ما عشناه من كلام وضجيج وما أسفر عنه من إنتاجات تلفزيونية شاهدناها خلال رمضان الذي ودعناه، ينطبق عليه المثل العربي «أسمع جعجعة ولا أرى طحنا» وأيضا المثل العامي المغربي «الجنازة كبيرة والميت فار». ويمكن اختصار الملاحظات الأولية للجمعية المغربية لحقوق المشاهد على النحو التالي:
محاولة استغفال المشاهد المغربي والانتقاص من ذكائه، من خلال بث فقرات «الكاميرا الخفية» المفبركة والتي كانت مجرد تمثيل متفق عليه مسبقا بين «أبطال» «الكاميرا الخفية» و«ضحاياها» وبين الشركة المنتجة. كما أن مجموعة من حلقات «الكاميرا الخفية» كانت مليئة بالأخطاء التقنية الواضحة، والتي تطوع بعض المولوعين ب«اليوتوب» و«الفايس بوك» بفضحها وإبراز مكامن الخلل فيها.
إصرار جل الأعمال الدرامية المغربية على الإضحاك، ولو بأية طريقة، مما جعلنا أمام فراغ في المضمون وارتجالية في التمثيل في غياب نص محكم البناء. ومن هنا، يمكن القول إن تلك الأعمال أماطت اللثام عن المشكلة الحقيقية التي تعاني منها الدراما المغربية والمتمثلة في ندرة السيناريوهات الجيدة. وبالتالي، فعوض تبديد المال العمومي في إنتاجات تلفزيونية تبعث على الرثاء، من الأجدر تخصيصه لسد الفراغ في مجال السيناريو من خلال ورشات للتكوين، حتى نكتسب في الأفق القريب أو المتوسط كتاب سيناريو أكفاء.
استمرار نفس شركات الإنتاج تقريباً في الهيمنة على الإنتاجات الرمضانية وخاصة «السيتكومات» و«السلسلات الهزلية» و«الكاميرا الخفية». وبالتالي، يطرح التساؤل عن الجدوى من كل هذه الضجة حول «شفافية» صفقات الإنتاج إذا كانت ستعيد لنا نفس الشركات ونفس الأسماء. كما يطرح التساؤل عن جدوى وجود لجان للتقييم بقنوات القطب العمومي إذا كانت الحصيلة كارثية بالشكل الذي شاهدناه. ونذهب بعيدا في التساؤل عما إذا كان دور تلك اللجان وعملها المؤدى عنه شكلياً ليس إلا، وأيضا التساؤل عن درجة الحياد والاستقلالية والنزاهة التي يفترض أن يتحلوا بها.
واعتبرت ورقة الجمعية المغربية لحقوق المشاهد أن حصيلة رمضان التلفزيونية كانت محكا واختبارا حقيقيا لحكومة ابن كيران، متسائلة في الوقت نفسه عن سبب تأخر رئيس الحكومة في ممارسة صلاحياته الدستورية لاقتراح مسؤولين جدد على رأس قنوات القطب العمومي، بما أن الموجودين حاليا أثبتوا أنهم ضد المطالب الإصلاحية التي يرفعها المجتمع منذ مدة.
يذكر أن الجمعية المغربية لحقوق المشاهد كانت قد نظمت قبل نحو شهرين بمعية 15 هيئة أخرى منضوية تحت لواء الشبكة المغربية للنهوض بالإعلام السمعي البصري، وقفة احتجاجية أمام مبنى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة احتجاجا على «سوء تدبير القطاع».