الآن وبعد أن هدأت العاصفة، وعادت الأمور أو بعضها إلى مكانها، ألقي القبض على دانيال مرة أخرى، وأضحى وضعه شبه قانوني لأنه كان سيرحل في يوم من الأيام، واستقبل الملك الضحايا وعائلاتهم فيما يشبه اعتذارا إليهم، وترطيبا لخواطرهم، وصدرت بلاغات ثلاثة عن القصر الملكي في لغة تصاعدية إيجابية، ابتدأت بالاعتراف بالخطأ، وانتهت بعزل بنهاشم المندوب العام للمؤسسات السجنية.. بعد كل هذا وجب طرح سؤال الحصيلة التركيبية لكل هذه الهزة، وضرورة استخلاص القليل من الدروس في كل المجالات الني شملتها التموجات الصادرة عن مركز الهزة هذه... على مستوى الإعلام، تبين بالواضح أن هذا الحقل منقسم على نفسه إلى شطرين متباعدين، إعلام تقليدي تجسد في الجرائد الورقية بصفة عامة (باستثناء جريدة أخبار اليوم)، وقنوات الإعلام السمعي والبصري العمومي برمتها والتي جنحت إلى الصمت القاتل حول تفاعلات قضية العفو على دانيال ولم تبد أي اهتمام بما كان يمور في الشارع من غضب ولد جنينيا وكبر إلى حد الانفجار، بل حتى بعض هذه الجرائد حين انتبهت إلى الموضوع، تطرقت له من زاوية السب وشتم الغاضبين على هذا القرار واصفة اياهم بأقذع النعوت ومتهمة إياهم بقصد رأس الدولة في هذه الحملة لا التعبير عن مشاعر الغضب والاستياء من قرار لرأس الدولة هذه... ومن جانب آخر، إعلام بديل، متقدم في آلياته أولا، كونه محمول على تكنولجيا المعلومات الحديثة، الأنترنيت أساسا، وذلك عبر المواقع الإلكترونية الإخبارية (كود ، لكم ، ألف بوست، هسبريس ، فبراير... واللائحة طويلة)، ثم عبر مواقع التواصل الاجتماعية، الفايسبوك خاصة والتويتر، ومتقدم أيضا كونه كان رافعة للوعي بهذا الغضب، وأداة تنظيم له، حيث عملت الجرائد الإلكترونية، لا على نقل خبر العفو عن الوحش دانيال فقط، بل بتتبع تداعياته الوطنية والدولية، وتقديم مواد تحليلية لقرار العفو على عدة مستويات سياسية واجتماعية وأخلاقية، ثم أخيرا مشتركة في صناعة قرار الإحتجاج، ومواكبة له في الميدان بل وضحية قمع هذه الاحتجاجات، خاصة في وقفة الرباط الشهيرة... على مستوى الحزبي كان نفس التقاطب الذي عرفه الحقل الإعلامي، حقل حزبي تقليدي وجامد، فباستثناء موقف الحزب الإشتراكي الموحد، التزمت كل الأحزاب الصمت المريب، والذي اصدرت قيادتها موقفا، فعلت ذلك وهي خارج اهتمامات الناس وغضبهم (تصريح لشكر الكاتب الأول لحزب الإتحاد الإشتراكي حول الموضوع)... صمت الأحزاب لم يكن له تفسير آخر سوى غياب الإشارة المولوية السامية من أجل التحرك، وخاصة أن الموضوع ملتبس بعفو ملكي، سيتضح من خلال تصريح المعني بالأمر، بأنه كان خطأ، سببه عدم العلم بدناءة الجرائم المرتكبة، هذه الأحزاب، تحركت بعد صدور البلاغ الأول للديوان الملكي، وكان تحركها بئيسا ينم عن جهل بمدى الغضب الذي عم المواطن، وبدل مناقشة الخطأ في قرار العفو، وضرورة إصلاح محيط الملكية والملكية نفسها، انبرت تمدح تجاوب الملك مع الشعب، وذكاء الملك وما إلى ذلك من مدح كئيب وغبي ولا يزيد الناس سوى نفورا من الأحزاب ومن الملكية ذاتها... ثم هناك مجال سياسي آخر، يؤثثه جزء كبير من المجتمع المدني (جمعيات حقوقية،نسائية، ومتخصصة: حماية الأطفال، العنف ضد النساء، الهجرة...) وجزء من شخصيات مناضلة مستقلة أو ما اصبح يصطلح عليه بالإلكترونات المستقلة، والتي انخرطت في تعبئة وتأطير هذا الغضب، ونظمت مسيرات ووقفات الاحتجاج وبلورت مطالب المواطن التي تراوحت بين الإقرار بالخطأ والاعتذار وفتح أوراش لإصلاح الملكية والقضاء... هذا الجزء السياسي ينبئ بتشكل قوة جديدة في الحياة المدنية قادرة على توفير درع تقدمي للمواطن ضد كل أشكال التآكل التي تعرفها الساحة السياسية، إن استطاع طبعا اجتياز طابعه الفسيفسائي والانتظام في شكل تقريري يوحد جميع أطيافه... وأخيرا، يبقى الدرس المهم هو ما راكمه المجتمع من نتائج خلال هذه المعركة، ولعل أهمها هو إسقاط القداسة على القرارات الملكية، وفرض شكل جديد من المحاسبة اتجاه مسؤولياته السياسية، وهي محاسبة شعبية ضدا على تغييب المحاسبة القانونية أو الدستورية.... إعادة الأحزاب السياسية إلى حجمها الحقيقي، كونها تشكيلات ميكروسكوبية لا تمثل المواطن بأي شكل من الأشكال، وهو ما سيجعلها تعيد النظر في ممارستها وفي خطوط توجهاتها...