امر مدهش فعلا هذا الإسقاط المتعسف الذي يقوم به فاعلون سياسيون لأحداث مصر على ما يجري وما يمكن أن يقع في بلادنا. هل أصبحنا بهذه البساطة مجرد هامش لبلد بعيد عنا، أم أننا أمة قائمة بتاريخها و"ربيعها" ومصيرها الخاص المستقل عما يجري في الجوار؟ لا شك أن بلادنا ليست جزيرة معزولة عما حولها، ومن المؤكد أن ما سمي ب"الربيع العربي" كان له تأثير بشكل أو بآخر على ما جرى في بلادنا سنة 2011. هذه حقيقة. لكنها لا يجب إطلاقا أن تحجب عنا الوجه الآخر للعملة. تغيير الدستور في 2011 كان مطلبا تاريخيا لليسار الإصلاحي وحزب الاستقلال وبعض القوى المدنية. إنه تطور كان يجب أن يقع عاجلا أم آجلا. التاريخ لم يبدأ في المغرب سنة 2011، وما يسميه البعض "ربيعا عربيا" ليس عندنا سوى لحظة من لحظات ترميم إصلاح انطلق قبل سنوات وانحرف عن مساره لأسباب ما يزال جلاؤها ذا أهمية بالغة لفهم الحاضر. بالتالي من غير المعقول أن يأتي البعض اليوم ليرهن ما تلا "الربيع المغربي" بما يشهده مسار "الربيع العربي" في دول مجاورة، تربطنا بشعوبها أواصر متينة لكنها تبقى دولا مستقلة قائمة بذاتها وتاريخها ومصيرها الخاص. لعل هذا أهم ما يجب التنبيه إليه والتشديد عليه اليوم، مهما كان مصير حكومة عبد الإله بنكيران بعد انسحاب وزراء حزب الاستقلال منها. الدرس الأول: الزمن المصري والزمن المغربي يحتج الذين يسقطون ما يقع في مصر على ما يمكن (أو يجب بالنسبة للبعض) أن يقع في المغرب، بفكرة أن حزب العدالة والتنمية الإسلامي بصفته الفرع المغربي للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين وصل إلى السلطة، بفضل ضغوط أمريكية في سياق "الربيع العربي"، تماما كما وقع في مصر وتونس. وما دام أن الأصل سقط في مصر فيجب أن تسقط الفرع في المغرب. الواقع أن هذه الفكرة صحيحة، والكل يذكر كيف أن الولاياتالمتحدة حاولت الضغط على أصحاب القرار في المغرب حتى قبل انتخابات 2007 ليصل الإسلاميون للحكومة... لكن في نفس الوقت لا يجب أن ننسى أن حزب العدالة والتنمية ظل يتحدث منذ انتخابات 2003 الجماعية مرورا بانتخابات 2007 وانتهاء عند انتخابات 2009، عما يعتبره ظلما انتخابيا مارسته في حقه وزارة الداخلية. والفوز الذي حققه هذا الحزب في انتخابات 2011 (رغم أنه عارض حركة 20 فبراير) ليس سوى استرداد لحقوق هضمت في محطات سابقة. بمعنى آخر، هل يمكن لعاقل اليوم أن يعتبر وصول الإسلاميين إلى الحكومة نتيجة فقط لضغوط الأمريكيين في إطار "ربيعهم العربي"، أم أن الأمر ببساطة نتيجة لتصويت من شارك من المغاربة المسجلين في اللوائح الانتخابية في اقتراع 25 نونبر 2011؟ لا بأس من التذكير ببعض البديهيات من قبيل أن، الإرادة الأجنبية مهما بلغ تأثيرها، لا يمكن أن تلغي في هذه الحالة حقيقة أن الحزب الفائز في 2011 حصل على المرتبة الأولى بفضل أصوات ناخبين مغاربة. لا بد أيضا من التذكير بالسياق الذي حدث فيه ذلك. يتعلق الأمر بمحطة يفترض أن تكون حاسمة في تاريخ الإصلاح (أو ترميم الإصلاح). إذ أن مجلس النواب والحكومة الذين أفرزتهما هذه الانتخابات، يجدر بهما أن يضطلعا بمهمة تاريخية تتمثل في استكمال كتابة الدستور. فضلا عن التحدي الكبير المطروح على الحكومة والمتمثل في تفعيل الدستور بما يجعل رئيسها وفريقه يمارسون فعلا صلاحياتهم كاملة، وخاصة إزاء الإدارة العمومية مهما سمت مستوياتها، حتى تكون محاسبتهم في الانتخابات المقبلة ذات معنى. هذا هو المسار المغربي الخاص والمتميز عما يقع في مصر أو الصومال أو بيرمانيا. وأي تفاعل مع ما يقع في بلادنا يجب أن يستحضر هذا السياق وليس شيئا آخر مما نتابعه بألم شديد على شاشات التلفزيون. إذا كان في مصر فريقان أحدهما يعتقد أن التقدم يكمن في الانقلاب على الرئيس المنتخب والآخر يرى أن التقدم هو رجوع هذا الرئيس إلى منصبه، فإن السؤال المطروح علينا نحن في المغرب مختلف تماما. سؤال التقدم نحو الديمقراطية في المغرب هو ببساطة شديدة: هل سيمارس رئيس الحكومة ووزراؤه صلاحياتهم كاملة حتى نقطع أخيرا ونهائيا مع هذا العطب الذي أعاق مسيرتنا الإصلاحية المنطلقة منذ 1998 (وليس في 2011)، هذا العطب المتمثل في ازدواجية السلطة التنفيذية بين "سلطة الدولة وسلطة الحكومة" بتعبير عبد الرحمان اليوسفي (محاضرة بروكسيل 29 مارس 2003)؟ أم أنه يجب التراجع عن هذا المكسب (النظري) لأن الظروف قدرت أن يستفيد منه فريق سياسي معين؟ طبعا لا يتوقف قوت المغاربة اليومي على هذا السؤال المصيري وحده، فالمفترض أن تتحمل الحكومة ومجلس النواب دورهما الكامل في تدبير السياسات العمومية في مختلف مجالاتها. لكن مصير الانتقال نحو الديمقراطية في بلادنا رهين حتما بالجواب الذي ستفرزه الأحداث الجارية عن هذا السؤال. سقوط هذه الحكومة أو استمرارها لن يكون رجع صدى لما يقع في الشرق، بل جوابا مغربيا عن سؤال مغربي: هل يستطيع المجتمع السياسي تفعيل الدستور بما يكرس مكانة رئيس الحكومة ومسؤولياته الجديدة أم أننا سنترد مجددا إلى ما قبل 2011؟ الدرس الثاني: هل يمكن أن يكون الإسلاميون ديمقراطيين؟ أما الدرس الثاني الذي تعلمنا إياه أحداث مصر فيخص الإسلاميين بالذات. دون تبرير الانقلاب العسكري على الرئيس الإخواني المنتخب، يجب التذكير بأن عنوان سنة واحدة من حكمه كان "الاستبداد". مرسي كان فعلا مستبدا إلى درجة تجرؤه على القضاء وإعلانه ما يسمى في مصر "إعلانا دستوريا" يحصن به نفسه من أي معارضة مهما كانت،مرورا بفرض دستور غير ديمقراطي بقوة الأمر الواقع، ورفض أي تجاوب مع المعارضة السلمية... الواقع أن هذا النزوع الاستبدادي للإخوان المسلمين كان منتظرا لسبب يرتبط في العمق بالأساس الإيديولوجي للإسلاميين مهما اختلفت فرقهم. يعتقد الإخوان المسلمون، وباقي فرق الإسلام السياسي، أن مسار التاريخ البشري له نقطة نهاية محددة سلفا وهي العودة لتطبيق الإسلام. هذا هو بالضبط أفق برنامجهم السياسي. إنه أفق مطلق محدد سلفا وفقا لقناعات فريق معين من فرقاء المجتمع، لا يقبل النقاش. لا يستطيع الإسلاميون، في نطاق هذا العائق الإيديولوجي، أن يتصوروا كيف يمكن أن يناقش برنامجهم وهو حسب فهمم ليس سوى كلام الله وسنة نبيه. (تماما كما لا يمكن للصهيوني أن يناقش ما يظنه وعدا إلهيا في فلسطين، وكما لا يستطيع النازي أن يناقش حتمية تفوق ما يظنه الجنس الآري على باقي العالمين...). فهذا قاسم مشترك بين كل تعبيرات اليمين الفاشي. وهكذا بمجرد ما يصل إسلامي إلى سدة الحكم يرفض منطقيا أي معارضة، لأنها ببساطة ستكون معارضة لكلام الله، كما يفهمه هو وفريقه السياسي. المشكلة أن السياسة أصبحت منذ اختراع الديمقراطية مبنية على منطق مختلف تماما. مقابل "إطلاقية" الإسلاميين، هناك "نسبية" الديمقراطيين. بالنسبة للديمقراطي، برنامجه ليس سوى حقيقة نسبية في الزمن تمتد من فترة انتخابه ويمكن أن تنتهي أو تتجدد لولايات محدودة عند فترة الانتخاب المقبلة، بناء على رأي الناخبين. ليس هناك أي أفق مطلق ومحددا منذ الأزل في نطاق الديمقراطية. وها هو المؤرخ عبد الله العروي يشرح لنا الفرق بين نسبية الديمقراطية وإطلاقية الاستبداد، بعدما تأخر وعينا عن إدراك أهمية هذا الاختراع الأوربي الغربي، فيقول في كتابه "العرب والفكر التاريخي" (1973) "هذا المبدأ (أو الافتراض الفلسفي، ويجب أن نوضح أن المبدأ المناقض له، مبدأ الحقيقة المطلقة التي تنكشف في إشراقة مباغتة لا يعدو أن يكون أيضا افتراضا) هو في آن واحد أساس النزعة التاريخية (التاريخانية) والديمقراطية والعلم الحديث. إن الديمقراطية كنظام مدني تقتضي أن لا أحد في المجتمع يملك الحقيقة السياسية (أي ما يصلح وما لا يصلح لخير وسعادة ونمو المجتمع) بل إن تلك الحقيقة تتكون شيئا فشيئا عن طريق المناقشة المتواصلة، ومحاولات إقناع البعض الآخر وأخيرا الاقتراع كوسيلة لإثبات حقيقة توافقية يصطلح عليها مؤقتا في انتظار نتائج التجربة وتغير الأوضاع." هذا بالضبط ما لا يستطيع الإسلاميون فهمه أو الاقتناع به إلا إن تملكوا الشجاعة الفكرية اللازمة لإدراك أن كلام الله نفسه كان بشكل من الأشكال نسبيا. إذ ينزل الوحي ويتغير (الآيات المنسوخة) مراعاة لتغير الظروف، ويصدر الله تعاليم واضحة في شأن توزيع أموال الزكاة (مثلا) لا يلتزم الصحابي الجليل أبو بكر الصديق بمجملها لتغير الظروف (قصة تعطيل الصديق منح الزكاة لفئة المؤلفة قلوبهم).... قد تكون التجربة المأساوية لمرسي الاختبار الحقيقي لمدى قدرة الفكرة "الإطلاقية" للإسلاميين على التحقق والاستمرار، في ظل نجاحها الباهض الثمن والمؤقت حتما في دول مثل السعودية وإيران وطالبان أفغانستان... ونحن في المغرب ما نزال معنيين بهذا النقاش إلى أن يقطع الإسلاميون بشكل حاسم مع برنامجهم بالتحكم في المجتمع المغربي وضبط الحياة اليومية لأفراده على إيقاع فهم فريق واحد للدين. وإلى أن تحسم الملكية بشكل واضح مع حصر مجال السلطة الدينية في نطاق الدين ولا تطال الفتوى الرسمية ما ينظمه القانون. إذ لا يجب التقليل من شأن المساعي الحثيثة لوزير الاتصال بالتحكم في برمجة الإعلام العمومي السمعي البصري، وليس فقط محاربة ما يمكن أن يعتبر سوء تدبير تقني لهذا القطاع. كما لا يجب أن نستصغر من شأن البرنامج التحكمي لوزير العلاقات مع البرلمان في جمعيات المجتمع المدني، من خلال ما سماه "السياسة الحكومية المتعلقة بجمعيات المجتمع المدني". ولا يجب خيرا إغفال التعديلات التي أدخلتها الوزيرة الجديدة للأسرة والتضامن والمرأة على خطة الحكومة للمساواة، بما يؤجل حماية بعض الحقوق الأساسية للنساء.
الدرس الثالث: كلفة النضال الديمقراطي مقابل كلفة الشارع وأما الدرس الثالث من دروس أحداث مصر، فيهم الراديكاليين يسارا ويمنيا من دعاة "المجلس التأسيسي للدستور" والاحتكام للشارع، مقابل "النضال الديمقراطي" داخل المؤسسات التمثيلية. من المؤكد أن للتجربة المصرية خصوصياتها وإكراهاتها. لكنها درس بليغ، يظهر كلفة الاحتكام للشارع مقابل كلفة الصراع داخل مجلس النواب وصناديق الاقتراع لحسم الصراعات السياسية في أي مجتمع. سيكون من الإجحاف توجيه اللوم هنا للمؤمنين باستراتيجية الشارع مقابل استراتجية النضال الديمقراطي المؤسساتي، لأن الواقع المؤسف هو أن الفشل يلاحق من اختار الاستراتجية الثانية سواء في 1998 أو 2011. لكن الوقت، ربما، ما يزال مبكرا اليوم لتحصين هذا الخيار في أفق تمتينه بقوانين انتخابية جديدة. كل شيء ما يزال ممكنا.