أولا، في البداية كانت المظاهرة السلمية المنظمة من طرف نقابيي الاتحاد المغربي للشغل (التوجه الديمقراطي) وأنصارهم أمام مقر الاتحاد الجهوي بشارع جان جوريس. وكان الهدف من هذه التظاهرة المبرمجة لمدة نصف ساعة ابتداء من الساعة الخامسة والربع مساء هو مواصلة الاحتجاج على إغلاق مقر الاتحاد منذ 09 مارس 2012 في وجه المناضلين/ات الديمقراطيين والقطاعات الرافضة للبيروقراطية المفسدة. وقد سبق لهؤلاء المناضلين/ات أن نظموا أزيد من 20 تظاهرة مماثلة منذ يوم إغلاق المقر؛ وتزامن عدد منها مع تنظيم التظاهرات الاحتجاجية لحركة 20 فبراير؛ ولم يسبق لقوات الأمن أن تدخلت ضد وقفاتهم الاحتجاجية السلمية. وانطلقت التظاهرة بشكل عادي في الوقت المحدد؛ وأخذ المتظاهرون/ات يرفعون شعارات مثل "نقابي وراسي مرفوع، ما مشري ما مبيوع" "الاتحاد قلعة حر، والفساد يطلع برا"، "علاش جينا واحتجينا، والمقر غلقوه علينا"، "بالوحدة والتضامن، اللي بغيناه يكون، يكون". وبعد 10 دقائق، بدأ تدخل قوات الأمن التي كانت متواجدة قرب المقر، بشكل "ناعم" في البداية ثم بشكل عنيف بعد ذلك لتفريق الوقفة السلمية الاحتجاجية بالهراوات والركل والرفس والشتم مما خلف إصابات في صفوف بعض المتظاهرين. ولم أعان شخصيا سوى من الدفع العنيف. هكذا إذن تم تفريق وقفة جماعية سلمية لنقابيين يحتجون أمام مقر نقابتهم وهو ما اعتبر شوطا جديدا للتدخل السافر للمخزن في النزاع النقابي داخل الاتحاد المغربي للشغل من أجل مناصرة البيروقراطية المفسدة في حربها الاستئصالية ضد التوجه الديمقراطي، المناضل من أجل الديمقراطية الداخلية، والمدعم لحركة 20 فبراير.
ثانيا، على الساعة السادسة مساء، وهو الموعد المحدد لانطلاق تظاهرة 20 فبراير بالرباط، بدأ المناضلون/ات الفبراريون، وأنا من ضمنهم، يتجهون نحو ساحة باب الأحد، المكان المحدد للوقفة الجماعية التي تسبق انطلاق المسيرة. وقد لاحظت تواجد حشود من قوات الأمن بأشكالها المختلفة تطوق الساحة التي ظلت فارغة. وللإشارة، وحسب علمي، لم يتوصل أي من المناضلين/ات المشرفين على تنظيم التظاهرة أو المسؤولين داخل لجنة المتابعة للمجلس الوطني لدعم حركة 20 فبراير بقرار المنع التقليدي الذي كان والي الجهة يبعثه في بعض من هذه المناسبات.
وبغتة أخذ رجال الأمن، ودون القيام بالإجراءات القانونية المعروفة (الإعلان بواسطة مكبر الصوت عن منع وفض التظاهرة) يعنفون المناضلين/ات والمواطنين/ات الذين جاؤوا للتظاهر مستعملين العبارات النابية والدفع العنيف واللكم والركل والرفس والسحل والهراوات كما يتجلى ذلك من معاينات الصحفيين، من مختلف التقارير المنشورة، ومن الصور وأشرطة الفيديو التي تم نقلها عبر الأنترنيت.
والآن سأركز على معاناتي الشخصية أثناء القمع العنيف للتظاهرة:
في السادسة مساء، وقفت في ساحة باب الأحد منتظرا انطلاق التظاهرة إلى جانب بعض الرفاق. وشاهدت بداية العنف البوليسي لمنع التظاهرة دون أن أغادر مكاني الأصلي. وطلب مني البوليس مغادرة المكان فرفضت، لعدم وجود أي مبرر لمغادرة المكان، خاصة وأنهم تمكنوا من مطاردة المتظاهرين الذين عادوا يتجمعون على بعد خمسين أو مئة متر من ساحة باب الأحد، رافعين شعارات استنكارية للقمع ومطالبين بالحرية للمعتقلين السياسيين (الشعار المركزي لليوم النضالي الوطني رقم 27).
وشرع البوليس في استعمال العنف ضدي (الدفع والركل) لمغادرة مكاني الأصلي؛ ولم أجد من وسيلة للدفاع عن النفس سوى الجلوس والالتصاق بالأرض. وهنا بدأت عملية "التجرجير" (أو السحل كما ورد في المقالات الصحفية، وهي العبارة التي لم أكن أعرفها من قبل وإن كنت قد عشتها عددا من المرات وآخرها أثناء الوقفة الاحتجاجية لحركة 20 فبراير المتعلقةبميزانية القصر، يوم 18 نونبر الماضي) التي أبعدوني من خلالها عن مكاني الأصلي في ساحة باب الاحد بعشرات الأمتار.
"التجرجير" هي عملية تعذيب مزدوج: الجانب الأول، وهو الأهون، التعذيب الجسماني، حيث الآلم في الكتفين والمفاصل والظهر خصوصا إذا كان مرض الروماتيزم قد فعل فعلته، والجانب الثاني معنوي ونفسي؛ فعندما أكون "مجرجرا" تحضرني صورة أضحية العيد، حين يذبح الكبش و"يجرجر" لإبعاده عن مكان الذبح لتفادي تلطيخ "الهيضورة" بالدم؛ يجب بذل مجهود لتصور الآلام النفسية التي كنت أحس بها: مناضل للشعب المغربي عمره 69 سنة، عرف الوطنية والنضال ومختلف أصناف القمع منذ التاسعة من عمره يتم معاملته من طرف المخزن كما يعامل الكبش بعد ذبحه. إنها الحكرة بعينها ومنتهى الإهانة وعفس الكرامة البشرية. ولهذا بمجرد الانتهاء من سحلي ورميي في الجهة الأخرى كنت أقف مجددا وأنتفض لكرامتي وأصرخ" كرامة، حرية، عدالة اجتماعية" وأعود لمكاني الأصلي بساحة باب الأحد غير عابئ بما يمكن أن يحصل: فالكرامة بالنسبة إلي، هي أهم من اي شيء آخر وأهم من الحياة نفسها، لأن الحياة بدون كرامة هي موت للإنسان وسط حياة حيوانية.
وتكرر نفس المشهد أربع أو خمس مرات: "التجرجير" لإبعادي من مكاني الأصلي بساحة باب الأحد، ثم الرجوع إلى نفس المكان وهكذا دواليك. وبالموازاة مع "التجرجير" أو بعده، كان الركل غير المرئي الذي يتفنن فيه بعض البوليس الساديين، وكانت الضربة على الرأس بجهاز الاتصال (الطولكيوولكي) من طرف أحد المسؤولين الأمنيين الذي اختفى عن الأنظار بعد ذلك مباشرة، بعد أن شهرت أمام الملأ بسلوكه الفاشي؛ وكانت ضربة أخرى تلقيتها في مكان آخر من الراس دون أن أعرف مصدرها.
وفي لحظة معينة ، بعد أن تأكد من لا جدوى وعبث وكلفة عملية السحل ("التجرجير") الإنسانية والسياسية، اتخذ البوليس قرارا غريبا من نوعه هو منعي كشخص من ولوج ساحة باب الأحد؛ ولتنفيذ القرار ثم نصب حاجز بشري مكون من العشرات من عناصر البوليس والقوات المساعدة لمنعي من اجتياز الطريق الفاصلة بين مكان محاصرتي ومكاني الأصلي بساحة باب الأحد. وقد تم تبليغي، شفويا طبعا، بالقرار من طرف المسؤول الأول عن العمليات الأمنية بمنطقة الأحداث؛ وفي نفس الوقت كنت أشاهد أن ساحة باب الأحد أصبحت مباحة للجميع وحتى للمناضلين/ات الذين جاؤوا للمشاركة في التظاهرة، مما يؤكد أن القرار التعسفي والسخيف بمنعي شخصيا من ولوج ساحة باب الأحد هو قرار ثابت، وهذا ما أجج إصراري على الدفاع عن كرامتي مهما كان الثمن، والكرامة في تلك اللحظة أصبحت مجسدة في الرجوع غير المشروط إلى مكاني الأصلي بساحة باب الأحد؛ وحتى يتحمل الجميع مسؤولياته، ونظرا لعدم توفري على هاتف والي الجهة هاتفت السيد رشدي رئيس قسم الشؤون العامة بالولاية لإخباره بما يجري وبالقرار الذي اتخذته القوات الأمنية وبإصراري على الرجوع إلى مكاني الأصلي بساحة باب الأحد. وفي تلك الأثناء ونظرا لحالتي الصحية المقلقة، بدأ بعض رفاقي القلائل الذين سمح لهم بالتواجد بجانبي يتخوفون بالخصوص من آثار الإصابتين في الرأس ويلحون على ذهابيإلى المستعجلات في سيارة الإسعاف الموجودة في عين المكان. رفضت أن أذهب إلى المستشفى قبل أن أعود إلى مكاني الأصلي بساحة باب الأحد. لم أكن لأقبل بقرار تعسفي يحد من حريتي في التنقل ومن حقي في التواجد في أي مكان عمومي. فكان إصراري على العودة إلى مكاني الأصلي بساحة باب الأحد قبل أي شيء آخر.
وفي هذه الأثناء، التحقت بي زوجتي وآزرتني في موقفي . وقررت آنذاك كتابة لافتة ورقية مضمونها: " عبد الحميد أمين، مناضل حركة 20 فبراير، محاصر من طرف البوليس". وبمجرد انتهائي من كتابة اللافتة، ارتمى البوليس علي بشكل همجي وأخذوا مني اللافتة ومزقوها؛ ثم انقضوا علي بطريقة جنونية وحملوني "مرابعة" كما يقال وزوجتي تتبعني وهي تصرخ بعد أن شاهدت ذلك المنظر الرهيب إلى أن أوصلوني إلى زنقة صغيرة بدون منفذ، تبعد بحوالي مئة متر عن ساحة باب الأحد. ومرة أخرى أصطدم بإجراء غريب هو منعي من طرف البوليس من الخروج من الزنقة التي وجدت نفسي فيها مع زوجتي التي كانت منهارة هناك، دون أن أعرف كيف تم ذلك. وأخذت أحتج على احتجازي في زقاق بدون منفذ. فهذا ثاني إجراء غريب ضد حريتي في التنقل. وبدأت أصرخ: لماذا تخرقون القانون بهذه الطريقة الفجة؟ إن كنت قد أجرمت، فما عليكم إلا أن تعتقلوني بذل منعي كشخص من ولوج ساحة باب الأحد أو احتجازي في زنقة بدون منفذ.
وفجأة تغيرت الأشياء؛ فجاءني مهرولا رئيس العمليات الأمنية (الذي سبق له أن أخبرني بالمنع من ولوج ساحة باب الأحد) وقال لي بصوت مرتفع: "لا لا أنت غير محتجز، أنت حر تفضل، أخرج إنك حر"، ثم أضاف: "ماذا تريد آسي أمين؟ ما هو مطلبك؟ فأجبته "أنت تعرف جيدا مطلبي".فقال لي مرة أخرى "ماذا تطلب؟" فقلت له "أنا أهنت وتم دوس كرامتي وأريد رد الاعتبار ولو جزئيا لكرامتي عبر الرجوع إلى مكاني الأصلي. فوافق على ذلك. وبالفعل ذهبت مع زوجتي إلى مكاني الأصلي بساحة باب الأحد الذي وقفت فيه على الساعة السادسة مساء، الموعد المحدد لانطلاق الوقفة الجماعية قبل تنظيم المسيرة. عند وصولي لذلك المكان قبلت الأرض مرتين ثم رددت مع زوجتي وبعض المناضلين الآخرين "حرية، كرامة، عدالة اجتماعية". كانت الساعة حوالي التاسعة ليلا. ذهبنا بعد ذلك إلى المستعجلات بمستشفى ابن سينا. والحياة مستمرة والنضال مستمر.
خلاصة أساسية:
لا يمكن أن نمر مرور الكرام على ما وقع يوم 26 ماي بالرباط والذي يظهر مرة أخرى أن دار لقمان مازالت على حالها. يمكن للمخزن أن يغير خطابه؛ يمكن أن يغير دستوره؛ يمكن أن يغير حكومته؛ لكنه لا يمكن أن يغير طبيعته اللاديمقراطية والمعادية لحقوق الإنسان.
عدد من المناضلين/ات يدعون إلى مقاضاة المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة التي عشناها يوم 26 ماي. ما هي الجدوى من ذلك في ظل قضاء غير مستقل؟
أعتقد شخصيا أن رد الفعل المجدي هو تعزيز القوى الديمقراطية المعادية للمخزن وتقوية وحدتها النضالية في إطار حركة 20 فبراير وعلى أساس مطالبها المناهضة للاستبداد والقهر والظلم والفساد، والمناضلة من أجل مغرب الكرامة والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان للجميع.
كلمة أخيرة
أشكر كل الذين عبروا كأشخاص، كهيئات، وكمنابر إعلامية عن تضامنهم معي ومع سائر ضحايا قمع تظاهرة يوم 26 ماي بالرباط.
الحرية الفورية لمعتقلي حركة 20 فبراير وكافة المعتقلين السياسيين.