من بين المفارقات أن الربيع السياسي بالمغرب يدل على فترات تاريخية امتلأت بها السجون بالمناضلين، فيما إلتحق بعضهم بالمنافي في أرض الله الواسعة، وظل بعضهم إلى اليوم بدون قبور تأوي رفاتهم التي لازال مكان وجودها مجهولا. في تلك الفثرة كان الإنتماء الحزبي المعارض يشكل جريمة يعاقب عليها القانون، على الطريقة المغربية، بل إن مجرد ضبط مواطن "متلبسا" بقراءة منشور أو جريدة معارضة تعرِّضه للسؤال والعقاب وحتى السجن في دهاليز مخافر الشرطة الرهيبة. سالت مياه كثيرة تحث جسور الربيع المغربي، لتواجه فصلا خريفيا ألغى باقي الفصول الأخرى ومحى الذاكرة النضالية لبعض ورثة أحزاب المعارضة -سابقا- وأصابهم بِ"أمنيزيا" مزمنة تمنعهم من فتح سجلات الماضي كي يستوعبوا ملابسات الحاضر. من السهولة بمكان أن نعزو حالة التردي النضالي عند هؤلاء إلى سقوط جدار برلين، دون التأكيد على أن جدرانا أخري سقطت من بنائها الحزبي وأفرزت زعامات تتنافس فيما بينها عمن يكون أول الموالين والمصفقين وأول من يقود جوقة مدّاحي المخزن "الديمقراطي"، وفي البرلمان أول المصوتين بأعلى أصواتهم وصراخهم على القرارات اللاّشعبية، وفي الحكومة التي جاءت من صناديق الأموال وليس الإقتراع يكونون أول المتشبتين والعاضين بالنواجد على الكراسي المريحة، وفي "المعارضة" أول من يتغاضى عن الباطل ويغمض العين عن الإعتقالات التعسفية الغامضة والتنكيل بالمتظاهرين وتلفيق التهم للمعارضين الحقيقيين والزج بهم في السجون ثم بعد ذلك أول الطاعنين في نوايا شباب 20 فبراير، ثم أول من يتبنى ثمار ما حققته الإنتفاضة الشعبية بالرغم من كونهم لم ينثروا بذورها ولم يرعوا نبثتها، بل حاولوا تسميم الري النضالي الذي كان يسقي أشجارها الشامخة. وهاهم مناضلوا الخريف السياسي يتشدقون بنصر في معركة لم يخوضوا غمارها ويحققوا أرباحا طائلة من تجارة الصمت، فيما تاريخ الشعوب لن يصمت أبداً عن ملحمة الجمود والرِّدة والإنتكاسة والتنويم التي قادوها….فلا نامت أعين الجبناء كما قال شاعرنا أحمد مطر.