هناك أكثر من رسالة يمكن التقاطها من الزيارة الملكية لتونس والخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس أمام الهيئة التأسيسية في مقر البرلمان التونسي. أولى الرسائل أن البلدين معا (المغرب وتونس) فضّلا أن يشقا طريقا مختلفا دعونا نسميه "الطريق الثالث" بخصوص قضية "التحول السياسي"، ذلك أنه في عز هذه التحولات العميقة التي ضربت المنطقة العربية وقلبت "الربيع العربي" إلى خريف للديمقراطية، جاء الخطاب الملكي من داخل البرلمان التونسي ليرسّخ هذا الطريق الثالث، القائم على دعم التوافق السياسي والمجتمعي لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
مضمون هذه الرسالة القوية أن الرّهان اليوم على إعادة إحياء المغرب العربي، أو على الاندماج الاقتصادي بين دوله، أو على مواجهة التحدّيات الأمنية القادمة من الساحل -جنوب الصحراء أو من ليبيا، لا يمكن أن يتم إلا ببلدان اختارت بشكل واع من غير أن يفرض عليها أحد، المضي في الإصلاحات السياسية والحفاظ على التوافقات السياسية والمجتمعية ودعم خيار الإدماج السياسي للإسلاميين والجمع بين مطلبَي الاستقرار والإصلاح.
بلغة أخرى أكثر وضوحا، إذا كان ممكنا في السابق أن تستمر حالة الجمود في الاتحاد المغاربي وأن يتم تدبير التوتر بين بعض أعضائه باستمرار هذه الحالة وعدم التقدم في أي ملف من ملفات التعاون والاندماج الاقتصادي بين بلدان المغرب العربي، فإن التحديات التي تواجهها دول المنطقة، وبالخصوص التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ستفقد هذه الدول القدرة على التعاطي معها، فبالأحرى استشراف رؤية استباقية لمواجهة مآلاتها.
لكنْ ماذا تعني هذه الرسائل المنبعثة من تونس لدى أشقائنا في الجزائر؟ الأمر "محرج" ربما على أكثر من مستوى أمام رأي عامّ دولي يرى كيف أن جزائر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة اعتادت أن تعرقل كل مبادرات المغرب الرامية إلى إحياء المغرب العربي وتأهيله ليكون أداة قوية قادرة على مواجهة التحديات المشتركة في هذه المنطقة المغاربية. أكثر من هذا، فالجزائر اليوم تمثل الحلقة الأضعف في مواجهة هذه التحديات، لأنها، أولا، جعلت نفسها على مسافة ضوئية من تجربة التحول السياسي وبرز شرخ كبير في نخبتها السياسية عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ثم، ثانيا وهذا هو الأخطر، لا تملك إلا "إستراتيجية" رد الفعل ضد أي "اختراق" أو مبادرة قادمة من المغرب..
رسالة أخرى لها أهميتها من هذه الزيارة الملكية، وهي أن المغرب حقق اختراقا قويا لم تنفع معه محاولات التشويش وإفساد العلاقة بينه وبين الجارة تونس. ولاحظ الجميع كيف أن الرباط لم تبد أي عداء للثورة التونسية ولا لتجربة التحول السياسي الذي تعيشه الشقيقة تونس حاليا، بل على العكس من ذلك، فقد جاء الخطاب الملكي من داخل البرلمان التونسي مثمّناً وداعما لمسار هذا التوافق الوطني بين جميع مكونات المجتمع التونسي. وليس هذا فسحب، بل إن محمدا السادس ذهب أبعد من ذلك عندما نزل رفقة ابنه ولي العهد إلى شوارع تونس يتجول بدون بروتوكول أمام ذهول التونسيين ويلتقط معهم الصّور التذكارية، في مشهد إنساني مؤثر وغير مسبوق.
والحقيقة أن هذه "القناعة الملكية" ليست وليدة اليوم ولا هي نتاج التحولات التي عرفها العالم العربي، بل هي جزء من المسار العلمي الذي اشتغل عليه الملك منذ أن كان وليا للعهد، إذ كان يرى أن مستقبل منطقة المغرب العربي تمر بالضّرورة عبر دعم تجربة التحول السياسي وفي إدماج المكونات السياسية وتوسيع هامش المشاركة السياسية والجمع بين مطلبي الاستقرار والإصلاح الديمقراطي.
نعم، لقد حاولت الجزائر أن تشوش على هذه الزيارة، وأن تفتعل خلافا بين قائدَي البلدين، لكنّ هذه "المحاولة"، التي تحمّلَ وزها الإعلام الجزائري، كشفت للجارة التونسية أيضا حقيقة دولة تشتغل على الهدم أكثر مما تشتغل على البنا، وتوظف سياستها ودبلوماسيتها وخيرات شعبها لعرقلة أي مبادرة مغربية حتى لو كانت الضّريبة هي المس بمصالح وأمن واستقرار وتقدم المنطقة..
رسالة مهمة أخرى كشفت عنها هذه الزيارة الملكية، وهي أنه لم يعد اليوم مقبولا تبرير حالة الجمود والتعثر التي يعرفها الاتحاد المغاربي بوجود خلاف بين المغرب والجزائر، لأن المغرب قدّم رؤيته لإعادة بناء الاتحاد المغاربي وقدم ما يكفي من الإشارات الإيجابية التي تبرهن على حسن النية وقدم أفكاره بخصوص مراجعة ميثاقه حتى لا يبقى تقدم كل ملفات التعاون بين بلدان الاتحاد رهيناً بقرار قادة القمة.. وهذا معناه أن المسؤولية اليوم تتحمّل وزرَها بالدرجة الأولى الجزائر، التي خاصمت "الحكمة" وجعلت، بسياستها المشاكسة ودبلوماسيتها الهدامة ومنهجها الاقصائي في تدبير القضايا الأمنية، من منطقة المغرب العربي بؤرة توتر قابلة للاشتعال في أي لحظة.