منذ عقود تطورت يشكل ملحوظ وعلى مستوى كوني اخترق كل المجتمعات، الرؤية والخطاب والأنشطة النسوية التي رغم تنوعها ظلت تلتقي عند هدف مشترك هو حصول النساء على حقوقهن المشروعة في إطار المساواة التامة بالرجال، كما تنصّ على ذلك المرجعية الدولية لحقوق الإنسان. و بالنسبة لي كمناضلة من الحركة الأمازيغية، أعتبر هذا اللقاء مناسبة لإسماع صوت المرأة الأمازيغية التي تضمّ صوتها إلى كافة النساء المناضلات في العالم، من أجل الكرامة و الحرية و المساواة. و هو أيضا لحظة مؤلمة تسمح لنا باستحضار جميع أشكال الحيف و الظلم و أنواع الخيبة و الإنكسار التي عرفتها القضية النسوية في بلادنا، التي لم تشهد تطورا كبيرا رغم أهمية الطموحات و الجهود التي عكستها السنوات الأخيرة، حيث ما زالت النساء تلاقين كل انواع المعاملة الماسّة بالكرامة، في مجتمع يطبعه الميز و العنف الرمزي و المادي ضد المرأة، سواء داخل الأسرة أو في الشارع أو داخل المؤسسات، و حيث الرجل ما زال يعتبر مفضّلا يحظى بامتياز يمنحه إياه الدين و التقاليد الإجتماعية و المنظومة التربوية المتناقضة. وتعكس مدونة الأسرة في وضعيتها المعدلة خلاصة المكاسب المحدودة و الهشة التي حصلت عليها المرأة المغربية بعد نضالات مريرة، حيث ما زالت "المدونة" تكرس العديد من تقاليد الميز بين الجنسين، رغم أن المغرب و قع و صادق على الإتفاقية الدولية المناهضة لكل أشكال الميز ضد النساء منذ سنة 1993. غير أن هذا الميز القانوني ليس إلا أحد المظاهر البارزة للأبارتايد الذكوري الممارس على النساء، فإذا نحن قمنا بحصيلة دقيقة للتحولات التي طالت علاقة الرجل بالمرأة سواء داخل الأسرة أو في العمل و الحياة العامة، فسنلمس وجود وضعية مفارقة، حيث تتزايد القيمة المادية النفعية للمرأة العاملة في مقابل استمرار قيم الميز و التعامل التحقيري لها رغم كونها إنسانة و مواطنة، كما أن مظاهر العنف الممارس عليها ما زالت ظاهرة للعيان، سواء العنف اللفظي أو الجسدي، و هو ما يولد آثارا نفسية و ذهنية يصعب زوالها، مما يجعل أغلبية النساء تعشن وضعية تطبعها الهشاشة و انعدام الثقة و الأمن، و هو ما انعكس سلبا على ترتيب المغرب الذي منحه المنتدى الإقتصادي الدولي الرتبة 125 من بين 130 بلدا، في مجال تكافؤ الفرص بين الرجال و النساء، و يكمن وراء هذه الرتبة السلبية و المخجلة الكثير من مظاهر العنف المتزايد في مجتمع تطبعه المحافظة على شتى المستويات، كما يتخذ فيه الفقر و البطالة طابعا نسويا أكثر فأكثر. و ما زالت المساواة في الأجور بين الرجال و النساء بعيدة المنال في عدد من المجالات، و عدد النساء التي يتوفين خلال الوضع ما زال مرتفعا، و كذا نسبة الأمية في صفوف النساء، و تقول الإحصائيات إن 30000 من الفتيات القاصرات تمّ تزويجهن قبل السن القانونية خلال سنة 2007، مما يدلّ على أن المغرب ما زال بعيدا عن إقرار المساواة الفعلية بين الجنسين و ضمان الحقوق الأساسية للنساء كما هي متعارف عليها دوليا. و رغم أن بعض النساء استطعن غزو المجال العمومي الذي ظلّ حتى أمد قريب مقتصرا على الرجال كمجالات المقاولة و البرلمان و الحكومة، حيث نجد 10 % من النساء قد اقتحمن البرلمان، و 12 % منهن انتخبن في الجماعات المحلية، إلا أن حضورهن ما زال لا ينظر إليه كحضور مشروع و طبيعي، و ما زالت أحكام القيمة والنظرة التنقيصية و الشتائم ذات الإيحاءات الجنسية تلاحق النساء كل يوم في المجالين الحضري و القروي على السواء. و كل امرأة تجرأت على الظهور و تأكيد الذات ينظر إليها كما لو أنها إباحية، حيث تحاكم المرأة النشيطة في المجتمع انطلاقا من مظهرها لا على أساس مردوديتها، و خلافا لما قد يُعتقد فالتمدّن و مظاهر التحديث المادي لا تساهم دائما في تحسين وضعية المرأة بل إننا في بعض الأحيان نلمس بعض التراجعات التي تعود إلى عدّة عوامل منها ضياع القيم و تأزم الأسرة و انفجارها و الأصولية الدينية المتطرفة.
أما فيما يخص مدونة الأسرة، النص الأكثر شهرة في موضوع المرأة، فقد كان موضوع جدل واسع و حملات إعلامية لا تتناسب مع ما تمخض عنه من نتائج هزيلة، والمتمثلة في : الإبقاء على نظام تعدد الزواج، ترك الباب مفتوحا أمام إمكانية تزويج القاصرات، الإبقاء على الميز بين الجنسين في الإرث، و عدم الحسم النهائي في موضوع حق الأم في الولاية المشروعة على أطفالها، و هو ما يطرح السؤال حول ما إذا كان هذا النص بحاجة إلى "تعديلات" أو إلى إلغائه بالمرة.
ينضاف إلى ذلك المقاومة الشرسة التي تعترض تنفيذ بعض التعديلات الطفيفة التي تم إقرارها، سواء داخل المحاكم و مخافر الشرطة و في المؤسسات التعليمية، و التي تعزي إلى جمود العقليات و إلى النقص الكبير في التوعية و التأطير.
و يبدو كما لو أن الحديث وطنيا عن حقوق المرأة ليس إلا شعارات موجهة للإستهلاك الخارجي من أجل تجميل صورة المغرب لدى دول الإتحاد الأوروبي و الغرب عموما، أكثر مما ترمي عمليا إلى رفع الميز و إقرار المساواة الحقيقية في القوانين و في الممارسة، مما جعل الخطاب الرسمي حول الإصلاح و التحديث لا ينعكس على وضعية النساء التي تظل متعارضة مع متطلبات الديمقراطية.
و بالنسبة للحركة الأمازيغية فقضية المرأة تعدّ من القضايا الحيوية التي تقع في مركز اهتمام الفاعلين الجمعويين و كذا الفعاليات و النشطاء بمختلف اختصاصاتهم ومجالات تدخلهم، و ذلك اعتبارا لكون المرأة في الثقافة الأمازيغية هي مركز الحياة الأسرية والإجتماعية، حيث ما زالت بعض مظاهر الأميسية القديمة مستمرة في كثير من التقاليد والعادات و أشكال التعبير اللسني، كما أنها حاملة اللغة و الثقافة الأصليتين، وتلعب الدور الرئيسي في نقلهما إلى الأجيال الجديدة، و هو ما يقتضي تمتيعها بكل الحقوق التي تسمح بإدماجها العملي في المشروع التنوي و بإعطائها فرصة الإسهام الفعال في مختلف الأوراش المؤثرة و التي تعد رافعة لإنجاح الإنتقال نحو الديمقراطية، و الحفاظ في نفس الوقت على الإرث الرمزي الأمازيغي المتجذر في البنيان الحضاري المغربي .
و يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و مشتقاته من مواثيق و اتفاقيات و عهود المرجعية الرئيسية للحركة الامازيغية بجانب قيم الثقافة الأمازيغية الأصلية، حيث تضمن المساواة التامة بين جميع المواطنين بدون أي نوع من الميز بذريعة الجنس أو الأصل العرقي أو اللغة أو اللون أو الدين، و تعتبر الحركة أن قضية المرأة ينبغي أن تطرح في إطار المرجعية الحقوقية الدولية، خارج أي نص ديني خصوصي، مع استلهام عناصر الثقافة الأصلية لسكان المغرب التي تتطابق مع القيم الكونية العالمية و ذلك من أجل التأصيل لهذه القيم في التربة الوطنية، و استبعاد القيم العتيقة التي لم تعد تلبي حاجات المرحلة الراهنة. وترى النساء الأمازيغيات بأن العديد من الحقوق التي تطالبن بها في الإطار العصري توجد لها جذور في الثقافة الأمازيغية الأصلية، غير أنّ برنامج التعريب والتأحيد L'uniformisation الذي طال المغرب بعد الإستقلال في إطار الدولة المركزية خلق هوة بين المغاربة و بين ثقافتهم الأصلية، و نشر على عكس ذلك الثقافة الدينية و المشرقية المعرّبة التي تعاني من مشكل عدم التلاؤم مع القيم الكونية بسبب إغراقها في النزعة الماضوية الرجعية، و جعلت الكثير من الحقوق الكونية للنساء تبدو غريبة عن التربة الوطنية بسبب التأثير السلبي للتربية التقليدية و للشعارات الأصولية السلفية.
و قد تبين من خلال هذه المرجعيات استحالة إعطاء المرأة المكانة التي تستحق في السياق العصري الديمقراطي انطلاقا من دين معين، إذ تلتقي جميع الأديان رغم اختلافاتها في إقرار وضعية دونية للمرأة مقارنة بالرجل، حيث تسود النظرة الذكورية سواء في النصوص الدينية أو في الفكر الفقهي، و هو ما يفسر الصدام الذي عرفته الناشطات النسويات منذ البداية مع منظومات الفكر الديني في مختلف البلدان، مما انتهى إلى فصل النضال النسوي عن المرجعيات الدينية الخصوصية و انخراطها في إطار المرجعية الكونية مما وسمها بطابع التجاوز الثوري للتقاليد.
فإذا كان الفكر النسوي ثوريا حين يعتبر ضرورة عدم الإبقاء على أي نوع من أنواع الميز بين الجنسين، سواء على المستوى الأخلاقي أو النفسي الإجتماعي، فإن الإعتراف بهذه الفكرة التي هي حتى الآن قناعة أخلاقية و مثال سياسي و تجسيدها على أكمل وجه تقتضي نوعا من العلمنة السياسية و الثقافية، ذلك أنّ الفكر النسوي بذرة لا يمكن أن تنتعش وتنمو إلا في تربة العلمانية، و بدون هذا الشرط لا يمكن الحديث عن حرية حقيقية أو مساواة فعلية بين الرجال و النساء.
إن المساواة بين كافة المواطنين تفترض هدم جميع التمايزات القائمة على الجنس أو غيره. غير أنه في ظل وضعية الصراع القائم من أجل انتزاع مزيد من الحقوق للمرأة المغربية، تشغل المرأة الأمازيغية وضعية متميزة بكونها وضعية "ظلم مزدوج"، فهي محرومة من حقوقها العامة كامرأة من جهة ، و محرومة من حقوقها الخصوصية كامرأة حاملة للهوية و الثقافة و اللغة الأمازيغية، حيث ظلت على مدى عقود لا تخاطبها الدولة بلغتها، كما لا تهتم المؤسسات بثقافتها، مما يجعل الميز الذي يطالها مزدوجا و مضاعفا، ويقتضي منها جهودا أكبر لنيل حقوقها كامرأة مواطنة و كعضو في المجتمع من جهة، و كذا كامرأة أمازيغية مؤتمنة على ثقافتنا الأمازيغية من جهة ثانية، حيث تشارك منذ آلاف السنين بكثافة في الحياة الرمزية لمجموعتها و التي من خلالها تعبر عن شخصيتها و آمالها وخيباتها، مما يجعلها تحتل مكانة رئيسية في الحفاظ و إعادة إنتاج الثقافة الأمازيغية، خاصة إذا علمنا بأن كل فرد يقتات منذ سن مبكرة من عادات و تقاليد ثقافته الأمومية التي تساهم في تشكيل شخصيته و هويته الفردية و تمكنه من الوعي بذاته و مواجهة واقعه و الإندماج فيه بفعالية، وهي المكتسبات التي يحافظ عليها الطفل مترسخة في أعماق شخصيته حتى عندما ينفصل عن أمه، مما يبين الدور الحاسم للأم في عملية التكوين النفسي و الذهني للفرد.
غير أن تبخيس الثقافة واللغة الأصليتين المرتبطتين بالأم داخل المنظومة التربوية وفي وسائل الإعلام العمومية وكل القنوات التي تحتكرها الدولة والدوائر الحيوية المؤثرة على مدى عقود من الإستقلال، والتي حالت دون الإعتراف للمرأة الأمازيغية بحقها في التاريخ والذاكرة والآداب الموروثة والممارسات الإجتماعية الحاملة للقيم الجماعية، قد أدى إلى حرمان أجيال بكاملها من اكتساب مقومات الشخصية الخصوصية للمغرب ، و جعل الإتجاه العام للفكر و الممارسة يركز أكثر على العناصر الثقافية المستوردة من البلدان المشرقية. و كان من نتائج ذلك أن الأمية و الجهل يطبعان وضعية أغلبية النساء الأمازيغيات و خاصة في العالم القروي، مما يعيق إدماجهن في المجتمع، و عندما تتمّ "محاربة الأمية" لديهن فإن ذلك يتم بلغتين لا علاقة لهما بحياتها اليومية و هما العربية و الفرنسية، مما يترتب عنه شعور بالدونية الثقافية و اللغوية لدى هؤلاء النسوة و يؤدّي إلى فشل معظمهن في إتقان اللغتين المستعملتين رسميا، كما يجلب ذلك في حال نجاح بعضهن ضياع القيم المرتبطة بالثقافة الأصلية و التي تحلّ محلها قيم بديلة إما مستوردة من المشرق أو من الغرب. في مواجهة هذه الوضعية التي تتميز بهيمنة مزدوجة ذكورية و ثقافية، كيف يمكن للمرأة الأمازيغية أن تنتزع حقوقها دون أن تفقد هويتها الأصلية و ثقافتها، تلك هي المعادلة التي تحاول المرأة الأمازيغية الفاعلة في الحركة الأمازيغية حلها و الإستجابة لتحدياتها، حيث تعمل عبر العمل الثقافي و التنموي المحلي و الوطني المؤطر من طرف الجمعيات الأمازيغية المنتشرة في مختلف أرجاء البلاد، على خوض الصراع على جبهتين: مواجهة العقلية الذكورية التي تريد الإبقاء على المرأة في وضعية الدونية، و كذا مواجهة الهيمنة الثقافية للمركز "العربي الإسلامي" الذي ما فتئ يسعى منذ عقود الإستقلال إلى إضفاء التجانس المطلق على عناصر التنوع الثقافي المغربي، مما يهدد المكون الأمازيغي بالزوال و الإنمحاء.
ورغم أن اللغة الأمازيغية ما زالت لغة الأم للكثير من المغاربة، كما أنها تمارس وظيفة التواصل اليومي و الإبداع الفني والأدبي الشفوي، إلا أنها لا تمتلك الشروط اللازمة للحفاظ على وجودها و الإستمرار في البقاء، و خاصة بعد عرقلة إدراجها في التعليم العمومي، وذلك بسبب منافسة اللغات المدعومة مؤسساتيا، وتطور وسائل الإتصال والتواصل في إطار العولمة الإقتصادية والثقافية، وكثافة الهجرة نحو المدن التي تحدث اهتزازا في البنيات الثقافية الأصلية وتخل بالتوازن السوسيوثقافي الذي كان يبقي على اللغات المهمشة، مما يعرضها للإنمحاء التدريجي، ويجعل نضال المرأة الأمازيغية أكثر صعوبة بسبب التحديات التي تواجهها بين تحقيق المساواة بين الجنسين وتحقيق المساواة لثقافتها الأصلية.
انطلاقا مما أشرنا إليه يتضح بأن الحركة الأمازيغية كما تتمظهر في السياق الراهن، هي في أمسّ الحاجة إلى إسهام المرأة الأمازيغية في معركة المساواة والمواطنة بأسسها الشاملة القانونية والإجتماعية الإقتصادية والثقافية اللغوية، في إطار إعادة النظر في ثوابت سياسية أدّت في نفس الوقت إلى تهميش دور المرأة في التنمية كما أدّت في السابق إلى إقصاء الثقافة واللغة الأصليتين لسكان المغرب من دائرة الإستفادة من إمكانيات الدولة ومن التدبير المؤسساتي، خاصة وأن الإعتراف الرسمي بالأمازيغية في دستور 2011، والذي ظلّ بدون تفعيل حتى الآن، كما ظل متعثرا على مستوى التنفيذ والمتابعة، لم يستطع بعدُ القضاء على نظرة الميز القديمة، تماما كما أن التعديل السطحي لنص "المدونة" لم يؤشر إلى تجاوز سلوكات العقلية الذكورية وإنصاف المرأة إنصافا تاما.