ملابسات مغرب القرن العشرين عرف مغرب القرن العشرين عدة أحداث كبرى لا يزال مسكوتا عنها في التاريخ الوطني، والمقررات الدراسية، بشكل يعكس نوعا من هاجس "الأمن المعرفي"، يقوم على إخفاء بعض الحقائق والتغطية على بؤر التوتر التاريخية في البلاد. ورغم أن بعض هذه الأحداث تحظى بأهمية كبرى على مستوى تاريخ الدولة المعاصرة، وبناء النظام السياسي وتحولاته، فإنها لا تزال خارج رواية التاريخ الوطني. فمنها ما يهم ملابسات الأجواء والوقائع التي عقبت اتفاقية ايكس ليبان وخروج الحماية الفرنسية والاسبانية، ومنها ما يخص التاريخ المحلي الذي كانت وقائعه تدور خارج مجال نفوذ الدولة المركزية، والتجليات الأخرى لأعمال المقاومة وتطوراتها السياسية، خاصة في الريف، ومنها ما يرتبط بتحريف بعض الحقائق ونشر مغالطات إيديولوجية بالشكل الذي سمح للسلطة وبعض النخب المدينية بالتحكم في الأوضاع وممارسة الإقصاء، وتوجيه الشعور العام بما يخدم مصالحها.
هذه المعطيات والأجزاء الخفية من المشهد التاريخي، من شأنها أن تفصح عن أشكال وخلفيات الصراعات التي طبعت نشوء واشتغال النظام السياسي والاقتصادي بالمغرب، خاصة على مستوى علاقة الدولة المركزية بالبوادي والجهات وأنظمتها القبلية والمحلية، وعلى مستوى صراع المصالح، وتحالفها أحيانا، بين الملكية وبعض النخب السياسية والمدينية التي كان لها نصيب وافر في العديد من الأحداث والصراعات التي عرفها سياق دخول الحماية واستقلال المغرب.
أكذوبة "الظهير البربري" لوضع حد للارتكاب المتكرر "لاغتيال" الأمازيغية، يجب إحداث انقلاب ابستمولوجي، أعني بذلك أن نفكر في "الظهير البربري" من خلال الأمازيغية بدل التفكير في هذه الأخيرة من خلال هذا الظهير (...) وهكذا سنحكم على من يستشهد ب"الظهير البربري" بأنه كذاب ومفتر لأن "الظهير البربري" لم يوجد أبدا، بل هو أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر. وهكذا تنتهي الأسطورة ويوضع حد للكذب والابتزاز. تنطوي عبارة "الظهير البربري" وتداولها وتوظيفها السياسي في فضاء المغرب المعاصر مند ثلاثينيات القرن العشرين، على تزوير تاريخي ثابت. فقد تم استغلال صدور ظهير 16ماي1930 المنظم للمحاكم العرفية، من طرف بعض أعضاء النخبة المدينية والحركة الوطنية، انطلاقا من تحريف حقيقة وفحوى هذا الظهير الذي ألصقت به صفة "البربري"، وربطه بالاستعمار والسعي إلى التفرقة والتنصير، وإحاطته بتحوير وهالة إيديولوجية وأسطورية. فسخر الوطنيون المساجد، وقرأوا "اللطيف" الذي يتوسل به في حالة المصائب والكوارث، ورفعوا الدعاء بعدم التفرقة بينهم وإخوانهم البربر، وهو ما لا يحيل عليه مضمون الظهير الفرنسي المكتوب، والذي لا علاقه له بالظهير المؤسطر الذي حملوه في أسمه وتداوله وتهويله عدة مغالطات، وذلك لتحقيق مصالح فئة معينة وهيمنتها على فضاء المغرب المستقل.
الظهير المعني يحمل اسم الظهير المنظم لسير العدالة بالقبائل ذات الأعراف البربرية، ويهم تنظيم المحاكم العرفية في المناطق التي تنعدم فيها المحاكم الشرعية. وإذا كان من الواضح أن الإدارة العرفية كان لها دور هام في تنظيم وحل النزاعات وتوظيف الأعراف والقوانين المحلية في تيسير الفعل القضائي وتدبير شؤون الأهالي، وأن وجود هذه المحاكم كان في بعض المناطق فقط ولا يتنافى والقضاء الشرعي، بل يتكامل معه، فإنه لم يسجل التاريخ بعد صدور ظهير ماي 1930 أن حصلت حالات تنصير أو تحالف مع المستعمر في الأوساط الأمازيغية التي عرفت بأوج أحداث المقاومة والتضحية، عكس ما حصل مع فئات أخرى في بعض المدن "الوطنية".
والأنكى من هذا كله، أن هذا التحريف والتوظيف الأيديولوجي كان هو الورقة التي استغلت بشكل مغرض لإقصاء كل ما يرتبط بالأمازيغية من فضاء النقاش والتفكير السياسي والثقافي، وعلى مستوى اللاشعور الفردي والجماعي، وإقرانها بالتفرقة والنزوع العنصري. وقد كان هذا هو التبرير الذي قام على تحريف التاريخ لخلق أسطورة بهواجس سياسية، شكلت الإطار المرجعي الذي تحكم في إقصاء الامازيغية منذ حوالي ثمانين سنة، وإبقائها على تخوم الهامش خارج دارة التداول والتدبير السياسي والثقافي الوطني.
الريف بين المقاومة والجمهورية نتيجة للتعتيم الذي خيم على مختلف الأحداث التي عرفتها منطقة الريف بشمال المغرب منذ أوائل القرن العشرين، ظهرت خلال السنوات الأخيرة عدة مبادرات على مستوى البحث والكتابة حاولت إثارة التاريخ المحلي للريف، والوقوف عند العديد من الوقائع الهامة التي كان هذا المجال مسرحا لها. وقد اهتمت هذه الكتابات بالأحداث والتدخلات العسكرية التي عرفها الريف منذ إعلان الجمهورية الريفية سنة 1921، وتاريخ المقاومة المحلية للاستعمار الاسباني وعنف المواجهات التي انتهت بحرب الغازات الإبادية، مرورا بالسنوات الموالية لاتفاقية إيكس ليبان وما عرفته سنتا 1957و1958 من أحداث وهجوم على المنطقة قصد إخضاعها، وحدث اغتيال عباس مساعدي بعد محاولة عزله من مسؤولية قيادة جيش التحرير ووقف المقاومة المستمرة، وملابسات هذا الاغتيال الذي تورط فيه بعض أعضاء الحركة الوطنية، حسب مضمون بعض هذه الشهادات والكتابات.
تنضاف إلى هذه السيرورة، أحداث فبراير 1957 التي تعرضت خلالها القرى والجبال الريفية لقصف جوي مكثف لسحق انتفاضتها، بمشاركة الملك الراحل الحسن الثاني والجنيرال أوفقير، وانتهاء بواقع التهميش والعقاب الجماعي الذي تعرضت له المنطقة على امتداد عشرات السنين، مما كرس جو التوتر والصراع الذي تخللته أحداث أخرى كما وقع سنة 1984، إلى حدود مشروع المصالحة وجبر الضرر الجماعي اليوم. فجل هذه الإصدارات تعكس حسا نضاليا يروم استجلاء الحقائق، كما يتضح من مدلول عناوينها التي تمجد الأحداث وتشيد بالمقاومة وتقرنها بالدم والحصار والملاحم والمنسي والمهمش والاحتراق... وقد أفصح بعضها على أن الريف كان ضحية القمع والتآمر والتقاء مصالح الأطراف التي حكمها سياق تأسيس الدولة المركزية، ومصلحة الملكية وحزب الاستقلال. وتستبعد بعض الروايات البعد الانفصالي لثورات وانتفاضات الريف، واعتبرت إعلان الجمهورية الريفية التي كانت عاصمتها هي أجدير، مجرد تكتيك سياسي لعبد الكريم الخطابي من أجل كسب تأييد فرنسا والأحزاب الشيوعية والقومية الأوروبية والعربية، رغم أن بيان الجمهورية تضمن في بنده الأول إعلان الريف دولة مستقلة، إضافة إلى القطيعة التي تفصل جيش التحرير الريفي عن أعضاء "الحركة الوطنية"، وتعبير الأمير عبد الكريم الخطابي عن مشروع توسيع المجال الجمهوري سنة 1925، مما استعجل قيام فرنسا واسبانيا بهجوم مشترك لإسقاط جمهورية الريف. عدي وبيهي ومأساة الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي مسقط رأس عدي وبيهي هو قرية "كراندو" بالقرب من مركز "الريش" وبمحاذاة قرية "تيجان" التي شيد بها معتقل تازممارت الشهير. وقد ارتبط اسمه بالأحداث التي عرفها الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي خلال السنوات الموالية لاتفاقية إيكس ليبان، واستقلال المغرب. فقد كان عدي وبيهي حينها يشغل منصب عامل إقليم تافيلالت، وتزعم ثورة ضد الحكم وزعماء الحركة الوطنية الذين عملوا على عزله من منصبه والحكم عليه بالسجن ثم الإعدام، هو الذي كانت تربطه علاقة ولاء مع الملك محمد الخامس كما أكدت ذلك عدة مصادر وشهادات، ورغم مساندته من طرف لحسن اليوسي الذي كان حينها يشغل منصب وزير التاج!
فقد أكد عبد الهادي بوطالب في شهادته أن السبب الرئيسي في قمع عدي وبيهي سنة 1957 هو غضب حزب الاستقلال عليه لأنه لم يكن يسمح لأعضائه بالقيام بأنشطة حزبية في إقليمه. وفي جوابه حول سؤال رغبة عدي وبيهي في إقامة جمهورية أمازيغية بالأطلس المتوسط، أجاب بوطالب بأن هذا غير صحيح (...) وأكد أن سعي حزب الاستقلال إلى الاستئثار بالحكم والسلطة والولاة والوزراء، هو ما أثار لدى رجال القبائل حزازات ومخاوف، مما كان يدفعهم إلى مناهضة الحكومة. وقد امتدت هذه الرغبة في الهيمنة والاستفراد بالسلطة والحكم إلى مواجهة خيار التعددية السياسية واعتقال بعض ممثلي القبائل والمناطق القروية الأمازيغية سنة 1958. لم يكن حدث قمع وسجن وإعدام عدي وبيهي نهاية مأساة الجنوب الشرقي، بل استمرت معاناة هذه المنطقة في شكل عقاب جماعي بعد أن شيد بها معتقل تازممارت، وعزل المنطقة عن محيطها بما يخدم التصور الأمني والتعتيمي للمعتقل، مما سبب في استباحة كرامة الأمازيغ وأعراضهم من طرف الجنود والمتدرعين بحساسية الموقع والمجال لممارسة الهيمنة والإذلال.