الحدث الذي عرفته مدينة أكادير مؤخرا، والمتمثل في انتفاضة العمدة طارق القباج ضدّ الجهات الرسمية التي عملت على مدى السنوات المنصرمة على تهميشه ومعاملته بكل أنواع الإحتقار والإهانة، حدث لا ينبغي أن يمرّ في صمت بدون أن يستقطب النقاش العمومي لمدة غير يسيرة، لا لشيء إلا لأنه ليس حدثا معزولا بقدر ما هو مؤشر خطير على استمرار سلبيات النسق السياسي القديم بكل مساوئه. كان من بين العوائق الكبرى التي عرقلت تطور المغرب على مدى نصف قرن من الحياة النيابية، الصراع العبثي بين المنتخبين والسلطة المحلية، والذي كان ضحيته دائما مصالح السكان، والمشروع الديمقراطي الوطني، حيث كان ينتهي إلى تكريس تبعية المؤسسات المنتخبة للسلطة التنفيذية، ويرهن كل المشاريع الوطنية لأهداف اللوبيات السلطوية والإدارية والعائلية.
يعود أصل هذا المشكل إلى طبيعة الدولة المغربية الوليدة بعد الإستقلال، والتي حافظت على طابع مزدوج يرمي إلى ضمان استمرار المخزن التقليدي بواجهة عصرية، وبما أنّ شرعية السلطة التقليدية كانت ستصطدم عاجلا أو آجلا بشرعية صناديق الإقتراع، فقد أصبح المنتخبون من ذوي الشعبية الواسعة يمثلون مصدر تهديد حقيقي لشرعية المخزن المركزي، وهو ما جعل السلطة تراهن على إضعاف دور المنتخبين عبر الحفاظ على وصاية تامة على تدبير شؤون الجماعات المحلية والتحكم في الخريطة الإنتخابية داخل كواليس وزارة الداخلية، من أجل ضمان استغلال الثروات والتحكم في موارد المال والنفوذ والثروة ضدا على القانون والمصلحة العامة. وهذا ما كان يجعل الإنتخابات مجال صراع قوي بين السلطة وأحزابها من جهة والمعارضة اليسارية على وجه الخصوص، حيث كان رهان السلطة يتمثل في انتخاب ممثلين طيّعين للسلطة وعدم السماح بانتخاب أشخاص ذوي شعبية قد تزعج مصالح الأعيان من حلفائها، كما كان رهان المعارضة يتمثل في بناء الشرعية السياسية على أساس انتخابات نظيفة.
وإذا كان معظم المنتخبين المحليين يؤثرون السلامة ويفضلون التبعية العمياء للسلطات المحلية، والتضحية بالمصالح الكبرى للساكنة من أجل الإثراء السريع ونيل رضى "المخزن"، كما يحدث في تفويت الأراضي ومقالع الرمال والسّماح بصفقات غير قانونية لصالح رجال الدولة من النافذين، فإن قلة نادرة من ممثلي السكان كانوا يحاولون الوقوف في وجه طاحونة الفساد الجهنمية، ومنهم عمدة أكادير الذي وجد نفسه بالتدريج مستهدفا، وبحقد انتقامي كبير، من طرف أشخاص ليسوا فقط من الأعيان المحليين بل من المحيط الملكي والدوائر العليا، فعروسة الجنوب التي تعرف نهضة سياحية كبيرة ما فتئت تسيل لُعاب الكثيرين من ذوي الأطماع التي لا حدّ لها.
ولهذا لم يكن مستغربا أن عمدة أكادير لم يُحارٍَِب فقط من طرف الولاة والعمال وموظفي الداخلية، بل تلقى الكثير من الضربات، بما فيها التهديد المباشر، من الجهات الأكثر نفوذا، ومنها الأطراف التي انطلاقا من خطابها المعلن من المفترض أن تقف بجانب الحق والنزاهة والمصداقية.
وطبيعي أن تنبري الأحزاب الحليفة للسلطة والمساهمة في تكريس الفساد العام والمحسوبية وسلطة العائلات الأوليكارشية مثل حزب الإستقلال وحزب التجمع الوطني للأحرار لتصدر بيانات في إدانة عمدة أكادير واتهامه بالسعي إلى المناورة لأهداف انتخابية، لأن هذه الأحزاب تدرك جيدا بأن الهجوم الذي يستهدف الرجل سينتهي إلى تقوية شعبيته بشكل كبير، فالأكاديريون يدركون بوضوح تام من يخدم مدينتهم بصدق ومن يتربّص بها الدوائر من أجل تركها فريسة للإنتهازيين الكبار والصغار.
ما حدث ليس حالة معزولة أو شخصية، إنها من المؤشرات السلبية التي ينبغي الإنكباب عليها باعتبارها جوهر الديمقراطية، لأنها تتعلق بمعركة إعادة الإعتبار لسلطة القانون ولمصداقية الحياة السياسية، وإذا انتهت هذه القصة بانتصار لوبيات الفساد، فسيكون ذلك علامة في غاية السلبية على انعدام الإرادة السياسية المطلوبة للمضي إلى الأمام.