لاعلاقة لها بالفراشة, "البابيون" الذي يتبعه الناس الألبة أيام الربيع لكي يعرفوا به أن "ّفصل الربيع قبل والوقت زيان وعلامات الخير للورى بانو" مثلما تقول قصيدة الملحون الشهيرة, ولا علاقة لها أيضا بالبابيون الذي يضعه نفس الناس الألبة لكي يكتمل طقم السموكينغ الذي يرتدونه خلال حفلاتهم الباطخة التي نرى صورها في التلفزيون فقط. الفراشة التي نتحدث عنها اليوم هي الفراشة التي توضع على الطريقو والتي تتضمن كل أنواع السلع التي يمكن لبالك أن يفكر فيهاو والتي يلجأ إليها المغاربة حين يعجزون عن اقتحام الأسواق الممتازة أو المحلات التجارية التي تتطلب من المال مالايمتلكونه. فراشتنا الكبرى أصبحت هي المغرب اليوم, وقد قلنا في عمود الأمس إننا عائدون لهذه الفضيحة التي أصبح الكل يشاهد خسائها دون قدرة على الاحتجاج أو الحديث منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه في تونس, فطار بن علي من كرسيه, فقرر المسؤولون المغاربة أن يتهاونوا في التعامل مع الباعة المتجولين من أصحاب "الكراريص والفراشات" وإن وضعوا سلعهم قبالة التوين سنتر في شارع الزرقطوني بالبيضاء.
قديما _ قبل العصر البوعزيزي بشهور أو أسابيع أو أيام فقط _ كانت القوات المساعدة تعبر أمام "ّالكروصة", فيحمل قائد القوات المساعدة الميزان, ويحمل معاونوه الخضار والفواكهو وتحمل "لاراف" صاحب الكروصة, ويحمل الناس الذين يكونون عاد متجمهرين في المكان الخبر الأليم إلى عائلة المعتقل المسكين الذي ارتكب جرما واحدا فقط هو أنه قرر أن يطعم عياله مالا حلالا من بيع وشراء هما كل ماتوصل إليه فكره في هذا الزمان اللعينز رأينا ورأى غيرنا غير مامرة أناسا من السلطة يعتدون على هؤلاء الباعة الجائلينو وسمعنا بل وشاهدنا غير مامرة الأتاوة المعلومة التي تدفع لبعض رجال السلطة المرتشين لكي يمثلوا دور من لم ير شيئا على الإطلاق, وكنا نقول باستمرار إن مايقع يشبه البناء العشوائي تماما: رجال سلطة يتقاضون ثمن سكوتهم عن خرق قانوني سيكبر إلى أن يصبح قانونا لايمكن القضاء عليه إلا بفتنة كبرى.كنا نتساءل باستمرار: كيف سينتهي هذا الفيلم السخيف ؟ مع علمنا أنه لن ينتهي إلا نهاية سيئة بكل تأكيد.
ثم كان البوعزيزي. وكانت تونس وثورتها التي أطاحت ببن علي. بائع خضار بسيط احتج على صفعة أتته من شرطية, أحرق نفسه احتجاج على "الحكرة" فمات, فاندلعت شرارة شيء غير مفهوم في العالم العربي كله. هنا انقلبت الآية لدينا تماما. أصبحنا نرى رجال السلطة في شوارعنا يدلون الباعة المتجولين على المكان الأفضل لوضع سلعهم فيه, وشاهدنا رجال شرطة وقوات مساعدة يقترحون على الباعة أنواع الخضر والفواكه التي يقبل عليها الناس أكثر خلا هذا الفصل أو الآخر "دير ليك شي كروصة ديال لافوكا, المغاربة راه عزيز عليهم كتر من الدلاح", "آش داك لشي عنب آصاحبي, جرب البطيخ والله حتى تدير بيه الفلوس". هنا اندلع مشكل آخر تماما. أصحاب المحلات التجارية القانونية وجدوا أنفسهم ضحية هذا "الانقلاب الثوري الكبير". أناس يؤدون ضرائبهم باستمرار, وينتظرون زبناءهم بكل احترام داخل محلاتهم أصبحوا مضطرين لمعاينة الخسائر التي تقع أمام أعينهم يوميا وسلع تشبه سلعهم تماما توضع في الأرض أمام محلاتهم دون أن يستطيعوا تحريك ساكن أو قول كلمة احتجاج واحدة. "مللي كنشكيو كيقولو لينا راه الوقت خايبة, صبرو معانا شوية". هكذا يقول التجار القانونيون, فيما يرد عليهم الجائلون بالقول إن "كاع اللي كتزعرطو المعزة فقرون الجبال كتوديه فدار الدبغ", وهم يحيلون على كل مافعله بهم بعض اعوان السلطة على امتداد سنوات من تنكيل حقيقي بهم قبل أن تهديهم صدف الحياة هذه الفرصة اللاتعوض للبيع وتعويض كل مافاتهم على امتداد هذه السنوات دون أن يخشوا من رد فعل هذه السلطات أو من انتقامها. هنا ندخلالمنطقة الخطيرة بالفعل: منطقة اللاقانون الذي كان يسمح للسلطات في وقت سابق بأن تصادر من الباعة ممتلكاتهم البسيطة دون أي ذنب جنوه, وهو نفس المنطق الذي يسمح لنفس السلطات اليوم أن تسمح لنفس البائعين بأن يقفوا أو يجلسوا في أي مكان أرادوه لأنهم يعرفون ألا أحد سيقول لهم شيئا طالما أن "الساندروم" البوعزيزي هو الذي يتحكم في أذهان الكل اليوم.
عندما تريد دولة ما أن تخرج من اللاقانون وشريعة الغاب التي حركت كثيرا من الأمور فيها في وقت من الأوقات, وعندما ترفع شعار دولة الحق والقانون عليها أن تبدأ من هذه الأشياء التي تبدو بسيطة لكي تعطي بها المثال على صدقية الشعار الذي ترفعه. أما عندما تكون عاجزة عن فرض سلطتها وهيبتها لمنع وضع فراشة في الأرض, فحينها لايمكننا إلا ترديد لازمة الباعة الجائلين الجميلة "مول المليح باع وراح", وانتظار كل ماقد يخطر لنا على البال من كوارث في المستقبل من الأيام.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق لاأعرف إن كان الشباب المحتجون في خريبكة يعرفون بعض الأمور عن مهرجان خريبكة للسينما الإفريقية الذي طالبوا بإلغائه وترحيله هو الآخر, أسوة بكل الأمور التي نطالب بترحيلها هذه الأيام من البلد, لكن ما أعرفه جيدا هو أن هذا المهرجان شكل رئة ثقافية لأفريقيا المغربو وللمغرب الإفريقي منذ سنوات, ومنه عبر كبار "بزاف" أرخوا من خلاله لنضالهم من أجل حق الشعوب في عيش كريم عبر الشيء الوحيد الذي يتقنونه, أي عبر الفن السابع. أن يلغى مهرجان خريبكة الإفريقي لايعني أن كل شباب خريبكة سيشتغلون في اليوم الموالي. نقطة, قلب على السطر وسير ليه.