ويعود الأمل إلى ما عرفته بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط من هزات قوية جعلت شعوب هذه البلدان تسترجع أوطانها التي اغتصبها الإستبداد، وترجع الريبة إلى ما يعاينه المغاربة من ضعف القوى السياسية المتخاذلة، ومن استعداد النخب للإستسلام والتوقيع على بياض، والرضى بالفتات، ومن قلة عدد المتظاهرين في الشارع مقارنة بحجم السكان، فكما أن ثمة مؤشرات إيجابية تسمح بالتفاؤل، توجد أيضا مؤشرات أخرى قد تجرّ إلى التشاؤم والشك، وهو ما يعني أن قلب موازين القوى لصالح التغيير والأمل، يقتضي ترجيح كفة الشارع بشكل لا يعود يسمح بالشك أو التردّد. فإذا كانت الأحزاب المغربية قد وضعت رجلا عند الشعب ورجلا عند المخزن فلأنها تشك بدورها في قدرة الشارع المغربي على تغيير موازين القوى، وتعتقد ولو بشكل نسبي في قوة المخزن وفي قدرته على امتصاص الغضب والإلتفاف على الحراك الشعبي، وهو رأي قد يصيب وقد يخطئ، لكن الأساسي اليوم هو أن نعرف ماذا نريد تحديدا، وأن نعلنه بقوة كشعار للمرحلة، ونحشد الناس من حوله ونتشبث به حتى النهاية. ولعل أخطر مرحلة تمر بها مراجعة الدستور هي المرحلة الحالية التي يمكن نعتها بالمرحلة المظلمة، تلك التي تنتهي فيها المشاورات العلنية بين اللجنة الإستشارية والأطراف السياسية والمدنية، وتبدأ فيها عمليات الغربلة والتصفية والترتيب والتشذيب، التي تتمّ من طرف قوى المخزن ومعاونيه فيما وراء الستار وبعيدا عن أعين الرقباء والملاحظين والمهتمين، وهي المرحلة التي يتمّ فيها إجهاض كل الأحلام وإخراج الفأر الذي سيتمخض عنه جبل المخزن. ومعلوم أن الآلية التي يتم اللجوء إليها كذريعة لتحقيق "الإصلاح في إطار الإستمرارية"، أي استمرارية المخزن وآلياته التقليدية وقيمه وسلوكاته، هي ذريعة "التوافقات" التي استعملت دائما من أجل تكريس "واقعية سياسية" مصطنعة تنتهي إلى الحفاظ على ما هو موجود وضمان استمراره بدون أي تغيير فعلي يضمن للناس أبسط حقوقهم، وهي "توافقات" بين السلطة وبين أحزاب سياسية باهتة أصلا فقدت صلتها العميقة بقواعدها كما فقدت الكثير من شرعيتها بسبب هذه "التوافقات" التي اضطرتها إليها طبيعة علاقتها مع السلطة، والتي تحولت إلى علاقة استسلام تام وخنوع بلغ حدّ الرقابة الذاتية التي أصبحت تشتغل بشكل آلي لدى قيادات أصيبت بشيخوخة بيولوجية وإيديولوجية صاعقة. لقد كان موطن الداء في التوافقات السياسية بالمغرب هو اختلال موازين القوى لصالح السلطة، واضطرار الأحزاب اليسارية على وجه الخصوص إلى قبول شروط لا تتفق مع نهجها وتوجهاتها الإيديولوجية، مما أضعف بشكل كبير دينامية الحياة السياسية، وجعل المخزن ينجح في اصطناع توافقات مرحلية لتحجيم مطالب التغيير والحدّ من طموحات الشارع، وإجهاض الحقوق بل والإستمرار في خرقها، ولعلّ أهمية المرحلة الحالية تتمثل في بزوغ البوادر الأولى لدينامية الشارع التي من شأنها وحدها أن تقلب هذا الوضع لتجعل الحقوق أسمى من كل التوافقات، وتجعل هذه الأخيرة مقتصرة على المجالات التي لا ينتج عنها إضرار بالحقوق الأساسية. لقد كانت السلطة تلعب على وتر "التحكيم" و"التوازنات" التي لم تكن كلها في غياب ديمقراطية مؤسسة وصلبة إلا طريقة ناجعة لتكريس الإستبداد والحفاظ على الحكم المطلق، فحرص السلطة على "إرضاء الجميع" أدّى إلى وضع سياسات مرتبكة ومتناقضة حدّ الهذيان، ذلك أن إرضاء أصحاب الحق غير ممكن بإرضاء معارضيهم أي الذين يتمسكون بحرمانهم من تلك الحقوق، فإرضاء المرأة بتمتيعها بحقوقها لا يمكن أن ينسجم مع إرضاء "العلماء" المتشدّدين الذين ما زالوا يعارضون تلك الحقوق ويرون فيها خروجا صريحا عن الملة وهتكا لحرمة الدين كما يفهمونه، وبما أن إرضاء الطرفين غير ممكن، فقد كان الحلّ دائما هو الإنحياز إلى الطرف الذي يضمن استمرار بنيات الإستبداد وثفافة العبودية، مع بعض التنازلات الجزئية من أجل تجميل الواجهة أمام المنتظم الحقوقي الدولي والإتحاد الأوروبي. نفس الشيء يقال عن الأمازيغية، فالحقوق الأمازيغية الثابتة تضيع في غمرة "التوافقات" التي تريد إرضاء دعاة التعريب المطلق وبعض أعضاء الطبقة السياسية المتخلفين عن العصر، بينما الفرق بين الطرفين هو أنّ أحدهما يطالب بحقوقه المشروعة بينما الطرف الثاني يدعو إلى حرمانه من تلك الحقوق، ولا مجال للتوفيق بينهما لأن ذلك من عوامل عرقلة الإنتقال نحو الديمقراطية. نفس الشيء يقال عن البطالة، فالحق في الشغل يتم الإلتفاف عليه بمصالح الباترونا والحسابات التقنية للسلطة التي تستمر رغم ذلك في تبذير المال العام في أمور ثانوية، وبما أنه لا يمكن إرضاء الطرفين معا فإنّ الضحية يكون هو صاحب الحقّ الذي تضيع حقوقه في "التوافقات" و"التوازنات" غير الحكيمة. نفس الشيء يقال عن الحريات الأساسية، والتي تتم التضحية بها بدورها إرضاء لأعداء الحرية من دهاقنة الإستبداد، أهل الوصاية على العقول والأفراد، بينما الحريات لا تقبل "التوافقات" ولا الأخذ والرد ولا التشكيك لأنها أساس الديمقراطية، وهي حريات لا تحدها إلا حريات الآخرين وليس مصالحهم أو مزاجهم. يظهر من هذا كله أن الحقّ لا يقبل التوافق ولا يخضع للتوازنات، و إنما يقتضي الإحترام المبدئي والتحقيق العيني المشخص، الضامن للكرامة التي هي الغاية والمرمى الذي تصبّ فيه كلّ جهود الإنسان النضالية من أجل الإصلاح أو التغيير. وإذا كانت البلدان الديمقراطية تقوم بتوافقات في السياسة من أجل فضّ النزاعات وتدبير الإختلاف، فإن الجدير بالذكر أن هذه التوافقات لا تتعلق أبدا بالحقوق والحريات الأساسية التي هي محسومة مقدسة ولا يجوز لأي كان المساس بها، وهذا هو المطلوب اليوم في المغرب، الحسم في الحقوق الأساسية وفي ضوابط الديمقراطية كما هي متعارف عليها في كل البلدان الديمقراطية، ثم إجراء التوافقات السياسية فيما تبقى من أمور تدبير الشأن العام. إن إخضاع كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية لتوافقات أطراف لا يهمها إلا الحفاظ على مكانتها في السلطة أو فيما جاورها هي عملية سياسية غير شريفة وفاقدة للمصداقية، وعلى الذين بقي فيهم رمق من نبل المبادئ السياسية الديمقراطية أن يدفعوا في اتجاه إحقاق الحقوق الأساسية الضامنة للكرامة وعدم إخضاعها للتوافقات، لأن ذلك ما يجرّد العملية السياسية والوثيقة الدستورية من المصداقية، و يجعل الخطاب لدينا مفارقا للممارسة، ويغرقنا من جديد في أسن التخلف والإستبداد.