في مسيرة الحياة منا من خلص إلى أن الفرح و السعادة لحظات نحصل عليها اقتناصا ، تعطينا شعورا قويا و ممددا . أما الحزن و التعب و الأسى و اليأس ، فلها الأوقات الطوال . لذا نتعلق بالأمل و نفرد له مساحة واسعة ، و بقدرما يحزننا غياب الأشخاص الذين نحبهم ، نبحث فيما تركوه من الآمال التي سعوا إليها و حضروا نحوها مسارات للحلم و الضوء ، و ذلك لتخليدهم و لتخليد آثارهم في ذاكرة الشعوب . و منا من علمته الحياة أن الكتابة عن المكان تحول هذا المكان إلى كلمات ، و الكلمات مهما كانت بارعة لا تتعدى أن تكون ظلالا باهتة ، أو في أحسن الحالات ملامسة لها من الخارج ، أو مجرد اقتراب منها ، مع أن الحياة ذاتها أغنى و أكثر كثافة ، و مليئة بالتفاصيل التي يصعب استعادتها مرة أخرى ، لأنه من أصعب المواقف أن يكون الإنسان شاهدا و أن يكون مطمئنا . أما أنا فأردد مع القائلين : إن أفظع ما في الخيال الاستفاقة منه على حقيقة مرة !! و هذا نزر قليل عن ذاكرة مكان سرها زمن و ساءتها أزمان !! إنها ذاكرة القصبة الزيدانية . تقع هذه المعلمة العريقة في مركز مثلث بني ملال /تادلا/الفقيه بن صالح . ويعود إنشاؤهاعلى الجانب الأيسر من مشرع أم الربيع المعروف بالمحج السلطاني ، إلى سنة 992 ه /1584م على يد زيدان بن أحمد المنصور الذهبي الذي كان واليا على جهة تادلا . و تعتبر أول حاضرة شيدت على بلاد بني عمير ، و لم تلبث أن أصبحت تتحكم في نصف المغرب ، بعد أن وزع أحمد المنصور مجموعة من المناطق على أبنائه ، و فوض لهم جميع الصلاحيات و السلط التي كان يتمتع بها . و ربما كان هذا من الأسباب التي جعلت بعض المؤرخين يصفون المنطقة بالقطر التادلي ، و القصبة الزيدانية بالقصبة العميرية ، و حتى بالمدينة العظيمة . و هكذا يمكن اعتبار القصبة الزيدانية حاضرة بني عمير ، و مقر خليفة السلطان القديمة ، بنيت قبل قصبة بلكوش ( بني ملال ) و القصبة الإسماعيلية بتادلا بزمن طويل . و قد أشار إليها المؤرخ أحمد المقري في كتابه الروضة الآس . ص : 62 في معرض حديثه عن المفاخر العمرانية للدولة السعدية قائلا : " و كذا اسمه ، وهي من مفاخر هذا البيت النبوي الشريف " . و أضاف عبد الوهاب بن منصور ( محقق الكتاب ) : " و هي القصبة الزيدانية " . و من المؤكد أن تشييدها على المحور الطرقي شمال جنوب / جنوب شمال ، كان يدخل في إطار مسؤولية الدولة السعدية التي جعلت على عاتقها مهمة أمن الطرق ، كما ورد في كتاب تاريخ الدولة السعدية . ص :66 لصاحبه المؤرخ المجهول : " فكان أحمد المنصور السعدي قد عمل قبل ذلك على تأمين الطرق ، فجعل كل شيخ ضامنا لما يضيع في إيالته ، أكد العهود ، و أخذ المواثيق على رؤساء القبائل " . و رغم تشييد المولى إسماعيل لقصبة تادلا فقد ظل دور القصبة الزيدانية الأساسي مستمرا ، و يبرز هذا الدور من خلال تعيين السلاطين العلويين لأمناء القصبة ، و من بينهم تعيين السلطان مولاي الحسن الأول لمحمد الحسن الهردة السوسي أمينا مكلفا بمرس الزيدانية و مسؤولا عن الخرص في منطقة تادلا . و لا بد من الإشارة في هذا المضمار إلى أن نقيب الشرفاء العلويين في المنطقة كان يقيم بالقصبة الزيدانية ، و يضطلع بجزء مهم مما يقوم به المخزن الجهوي من أخبار ، و استقبال للوفود ، و إجراء الصلح و التوسط ، و إجراء التحقيقات ، و تقديم الاقتراحات ، و تهدئة الأوضاع ، و التشفع لدى السلطان ... و من غير اللائق الحديث عن الثقافة دون التطرق إلى الزيدانية ، ذلك أنه بمجرد وصول زيدان لتادلا جمع حوله أهم شخصيات الإقليم البارزة ، و كان على رأسهم : أحمد بلقاسم الصومعي ، و امحمد الشرقي ، و أحمد بن أبي محلي ، و غيرهم . و قد استدل – في الموضوع – الأستاذ و الباحث أحمد محمد قاسمي في كتابه تاريخ قبيلة بني عمير و المحيط التادلي . ص : 87 بما جاء في وريقات مبعثرة ، الخزانة الحسنية : " و كما كانت الزيدانية مركزا سياسيا فقد كانت مركزا ثقافيا ، بأحضانها تعقد للعلم المجالس و الندوات ، و في رحابها تقام الصلوات ، و بين جنباتها عزف العازفون و غنى المغنون ، فعلت حناجر الغيد ، تضاهي الطير بجميل الأغاريد و اللحون و أعذب الفنون . هي آية في الفن تنبئ من أتى ***** عمن مضى و كفى بها للراء و أشار إليها كذلك محمد الصغير اليفرني في كتابه نزهة الحادي . ص :242 حيث قال : " كان زيدان فقيها مشاركا ، و كان كثير المراء و الجدال ، كما وقع له مع سيدي أحمد بلقاسم الصومعي . إلا أنها على الرغم من الدور السياسي و الأمني و الثقافي و الاقتصادي الذي ظلت تلعبه على مر الزمان ، فقد ظلت دوما في أذهان العميريين و غيرهم من أهل الربع التادلي ، على حد تعبير الباحث أحمد محمد قاسمي ، رمزا للسلطة و ما يمكن أن تثيره هذه الكلمة من خوف و رهبة في النفوس ولعل ذلك ما أخر نموها الحضاري و أبعد السكان عن جنباتها ، كما جعلها هدفا مرصودا لقوات الاحتلال الفرنسي حين دخولها المنطقة ، فكان أن احتلتها بتاريخ : 10 أبريل 1913م . و استباحت هدمها و شجعت على نهب نفائسها ، مما دفع بعض القواد إلى جلب أخشابها و سقوفها لتشييد منازلهم ... الزيدانية ، هذه المعلمة التاريخية ، تحولت اليوم إلى أطلال امتدت إلى رحابها محاريث بعض الفلاحين و قطعان أغنامهم ، و أيدي العابثين ... هي الآن ، في حاجة إلى من ينقذ معالمها و يرعى آثارها المتبقية . إنها صرخة استغاثة إلى كل الضمائر الحية التي تغار على سلامة الذخائر النفيسة لتاريخ و تراث وطننا الحبيب ... ألا فهل من منقذ ؟؟!! ت : إدريس الهراس