الكذب السياسي، تعريفاً، هو تعمد إخفاء حقيقة متعلقة بوقائع سياسية واجتماعية، والإعراض عن الجهر بها لسبب من الأسباب. قد يكون الدافع وراء الكذبة السياسية هو التهرب من تحمل المسؤولية أو الخوف من إيقاظ فتنة اجتماعية نائمة، وقد يكون كذلك محاولة لتبييض سيرة سياسية متسخة، أو ربما أيضا محاولة لتوريط مسؤول سياسي في مشكلة أو فخ أو فضيحة هو، في البداية والنهاية، منها براء. الكذب بين الأفراد هو مما لا ينكر أحد على أنه من نوازع بني البشر، وآثاره محدودة في نطاق العلاقات بين الأفراد و المهيكلة للمصلحة الخاصة. لكن حين ينتقل هذا السلوك إلى مستويات القرار العمومي ويصبح لصيقا بأصحابه وهم مطوقون بأمانة رعاية المصلحة العامة، فتلك هي الفتنة بعينها. أما تداعياتها فهي بقدر حجم الكذبة وطبيعتها وخطورتها، وقد تصل شظاياها، بعد افتضاح أمرها، إلى القاع الاجتماعي لتضرب استقراره وتهز كيانه ، بل و تُسقط عنصر الثقة في مؤسسات الدولة و تقوض شرعية ومشروعية سياساتها. مناسبة هذا الكلام هو ما تمت معاينته من أكذوبات وأغاليط قد تكون طالت بعض التقارير الإدارية والأمنية والسياسية من جنس تلك التي رفعت لجهات عليا في الدولة بخصوص حراك الريف، حتى باتت حقيقة في نظر أصحابها و أولئك الذين تم إسقاطهم في شِراكها. لكن المشكلة تبدأ من اللحظة التي تُتخذ القرارات السياسية الحاسمة على أساسها. أولى الأكذوبات التي كشفها حراك الريف هي تلك التي طالت مشروعا تنمويا وهيكليا لطالما شكل أملا وخلاصا لسكان المنطقة وهو مشروع "الحسيمة منارة المتوسط". وعدد هذه الأكاذيب أربعة عشر كذبة بمعدل كذبة لكل وزير مُوقِع على الاتفاقية التي تهم المشروع ذاك. كلهم كذبوا على الملك وعلى المغاربة، وعلى أهل الريف خاصة. ولأن حبل الكذب قصير كما يقال، فقد هبّت رياح الحراك وعرّتْ على واقع من الاستخفاف الخطير بالمسؤولية العمومية إلى درجة خيانة الأمانة، بل وحكمت على الحكومة بالذل والهوان وأدخلتها قاعة انتظار نتائج التحقيقات التي أمر بها الملك. وثاني الأكاذيب التي صبت الزيت على نار الاحتجاجات بالريف وكادت أن تهزّ كيان الحكومة وأن تعصف برهانات استراتيجية للدولة برمتها، هي تلك التي ضحك فيها وزير الداخلية على زعماء ستة أحزاب سياسية حكومية دفعة واحدة بعد أن قام بإيهامهم بوجود نزعات انفصالية تدق على أبواب المملكة من بوابة الريف واحتجاجات ساكنة تطالب بالحد الأدنى من الكرامة الإنسانية ! و لأن أهل الريف يتمتعون بمزاج خاص و أنافة ورثوها عن ماضيهم الكفاحي الوطني، فإنهم لن يغفروا للحكومة هذه الإهانة حتى ولو تضوّروا جوعاً أو ماتوا استشهادا. ثالثة الأكاذيب هي وجود وزارة لحقوق الإنسان يقودها مسؤول يقول بأنه لا يتوفر على أية معلومات حول ما يقع !! وزاد الطين بلة تلك المزاعم المسنودة بتقارير أمنية التي تفيد بعدم تسجيل حالات تعذيب لمعتقلي الحراك، حتى نزلت تسريبات لتقرير أولي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان يُقر بعكس ذلك، وهو الخبر الذي نزل كالصاعقة على مسؤولي الدولة الكبار، وسيفتح بلا شك مسارا جديدا في الترافع الحقوقي والسياسي ضد الدولة. ولنا أن نتصور ردود الفعل الأممية، خاصة منها المنظمات والهيئات الحقوقية الدولية التي قد تعتقد أنها كانت، هي الأخرى، ضحية كذبة حقوقية كبيرة إسمها تجربة الإنصاف و المصالحة... وإذا كان الكذب هو مما لا تخلو منه أية ممارسة سياسية في العالم، فإن خطورته في بلادنا هو أن يصير لازمةً لمسؤولين عموميين كبار في اتخاذهم لقرارات استراتيجية كبرى يتوقف عليها كيان الدولة واستقرار البلاد. وهنا بالضبط يُطرح سؤال تشكيكي قد لا يخلو من خطورة: هل يجوز إبداء الولاء لدولة تكذب والاطمئنان لقرارات حكامها ؟