وبالنسبة للدولة الرأسمالية التبعية، فإنها تعتبر حديثة بالنسبة إلى الدولة الإقطاعية، التي سبقتها، أو تعاصرها، أو تداخلها، أو تتناقض معها. وهي لذلك متقدمة، ومتطورة، في حدود معينة، ومن خلال تكريسها لديمقراطية الواجهة أحيانا، أو من خلال تبعيتها للحزب أحيانا أخرى. غير أن ديمقراطية الرأسمالية التبعية، أو تبعيتها للغرب، لا يلغي استبدادها. والاستبداد لا يمكن أن يكون إلا مجالا لتفريخ التخلف الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي. ولذلك نجد أن الدولة الرأسمالية التابعة لا تحسم مع: أ- بقايا الإقطاع، التي تتحالف مع البورجوازية التابعة، وتصير جزءا لا يتجزأ منها، وبحمولتها الفكرية الخرافية، والإيديولوجية المتخلفة، التي تعتبر خليطا من الخرافات، ومن أدلجة الدين، ومن الأفكار الإقطاعية الموروثة، مما يمكن اعتباره عرقلة في طريق أي تقدم، تقدم على القيام به البورجوازية التابعة. وبالإضافة إلى ما ذكرنا، فإن بقايا الإقطاع، تساهم، بشكل كبير، في جعل الدولة البورجوازية التابعة أكثر استبدادا، وتدفعها إلى الأخذ بأدلجة الدين الإسلامي، لتضليل الجماهير الشعبية الكادحة، حتى تقبل ذلك الاستبداد على أنه قدر من الله، ويصير القول به جزءا من الإيمان. وتعمل بقايا الإقطاع على جعل الدولة الرأسمالية التبعية تنتج شروط تجدد تلك البقايا، من خلال دعم الاقتصاد الزراعي المتخلف، ودمج العقلية الزراعية في البرامج التعليمية، وتمكين تلك البقايا من الوصول إلى مراكز القرار في المؤسسات المحلية، والإقليمية، والجهوية، والوطنية، حتى تضمن المساهمة في اتخاذ القرارات، التي تخدم مصالحها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، حتى تمتلك القدرة على الاستمرار، والتجدد. وهذه البقايا لا تهمها الديمقراطية، ولا تسعى أبدا إلى تحقيق و لو جزء يسير من العدالة الاجتماعية، نظرا لطبيعتها الاستبدادية، اللاديمقراطية، واللاشعبية. ب- أدلجة الدين الإسلامي، التي تصير وسيلة إيديولوجية، توظفها الدولة الرأسمالية التابعة، لتحقيق غايتين أساسيتين: الغاية الأولى: هي إعطاء الشرعية الدينية لنفسها، حتى تكرس استبدادها، الذي يتخذ طابع الاستبداد الديني، الذي تمنع قدسية الدين من تناوله بالنقد، والتفنيد، والنفي، لتصير بذلك الدولة الرأسمالية التابعة نفسها مقدسة. والغاية الثانية: هي تضليل الجماهير الشعبية الكادحة، التي تغرق في اليومي، الذي تبحث له عن مبرر ديني، وتسعى من ورائه إلى التماس المغفرة في يوم القيامة، من ذنوب لم ترتكبها الجماهير الشعبية الكادحة، بقدر ما ترتكبها البورجوازية التابعة، التي تبالغ في استغلالها للكادحين، وتعمل على تكريس حرمانهم الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، في ظل الدولة الرأسمالية التابعة، التي هي دولة تلك البورجوازية. و السماح بممارسة أدلجة الدين، لا يعطي الشرعية للبورجوازية التابعة، ودولتها الرأسمالية التابعة وحدهما، وإنما تنتقل تلك الشرعية إلى كل من يسعى إلى اعتماد أدلجة الدين من وجهة نظر معينة، لخدمة مصالح طبقة معينة، اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، بما فيها توظيف تلك الأدلجة، من أجل الوصول إلى السلطة، لتكريس الاستبداد القائم، أو من أجل فرض استبداد بديل. والشروع في بناء "الدولة الدينية"، التي لا تختلف عن الدولة الرأسمالية التابعة، إلا في الاستغراق في أدلجة الدين، وفي تغيير وجهة التبعية. وإعطاء الشرعية لمؤدلجي الدين، ولممارساتهم المختلفة، والتي تتخذ في معظم الأحيان طابعا إرهابيا، هو المأزق الذي تقع فيه الدولة الرأسمالية التابعة، التي استأسد في إطارها مؤدلجو الدين الإسلامي بالخصوص، الذين وظفتهم الدول الرأسمالية التابعة، في مراحل تاريخية معينة ، في محاربة المد الاشتراكي، على جميع المستويات، إلى أن تحولوا إلى مجرد جماعات إرهابية، تقلق الأنظمة الرأسمالية التابعة، كما تقلق الأنظمة الرأسمالية العالمية نفسها، وفي عقر دارها. ج- أدلجة الدين الإسلامي، ومع الفكر الخرافي، ومع الإيديولوجيات المغرقة في التخلف، من خلال برامجها التعليمية، والثقافية، وعلى مستوى الواقع، حيث نجد أن مؤدلجي الدين يتصرفون، و كأن المجتمعات العربية، ومجتمعات باقي المسلمين، تعيش في القرون الوسطى، وكأن القرون الوسطى، لازالت تدلي بظلالها على مرحلة القرن الواحد والعشرين، وفي ظل عولمة اقتصاد السوق، وكأن هذا التطور الهائل في مجالات العلوم، والتقنيات لم يحصل، وكأن هذه الثورة الإليكترونية لم تحدث. إن الدولة التابعة، تسمح بانتقال هؤلاء من مستوى الأدلجة الدينية، المغرقة في الظلامية، إلى مستوى بناء التنظيمات المجيشة للعرب، والمسلمين، في كل أرجاء الأرض، لتحقيق غايتين: الغاية الأولى: هي بناء سدود منيعة، فكرية، وإيديولوجية، وسياسية، ضد العلمانية، والفكر العلماني، وضد الفكر الاشتراكي العلمي، باعتباره أكثر علمانية من أي فكر آخر، وضد إمكانية استعادة التنظيمات الديمقراطية، ذات التوجه العلماني، واليسارية الأكثر علمانية، لقوتها التنظيمية، والجماهيرية، حتى تبقى الجماهير العربية، وجماهير المسلمين، تحت طائلة أدلجة الدين. والدولة التابعة عندما تعمل على تحقيق هاتين الغايتين، من خلال عدم الحسم مع أدلجة الدين، فلأن هذه الدولة الرأسمالية التابعة، أكثر استعدادا لتوظيف أدلجة الدين، وأكثر استفادة من أدلجة الدين. ولذلك فاعتبارها دولة حديثة، إنما هو من باب الإيديولوجية. وإلا فإنها باعتمادها أدلجة الدين في الفكر، وفي الممارسة اليومية، ينفي عنها كونها كذلك، رغم تبعيتها للنظام الرأسمالي، ورغم خضوعها المطلق لتعليمات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمؤسسات المالية الدولية، ورغم اعتماد هذه الدولة على أحدث ما توصلت إليه البشرية في مجال التكنولوجيا. د- بقايا الزراعة التقليدية، التي لازالت معتمدة في كل البلاد العربية، وباقي بلدان المسلمين، والتي لا علاقة لها بهذا التطور الهائل، الذي تعرفه مختلف مجالات الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، ولثقافية، والمدنية، والسياسية، في مختلف البلدان المحكومة من قبل الأنظمة الرأسمالية التابعة. والدولة الرأسمالية التابعة، عندما تسمح باستمرار الزراعة التقليدية، فلأنها تسعى إلى تحقيق الأهداف التالية: الهدف الأول: الحفاظ على الزراعة التقليدية التي تشغل قطاعات عريضة من المجتمعات العربية، ومجتمعات باقي بلدان المسلمين، حتى تبقى منشغلة باليومي، وبكفاف العيش، عما تقوم به البورجوازية التابعة، التي تحمي الدولة الرأسمالية التابعة مصالحها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. والهدف الثاني: توفير التربة الخصبة لأدلجة الدين الإسلامي، التي تجد قبولا واسعا، وعريضا، من قبل الفلاحين الصغار، والمعدمين، الذين لا يهتمون بالفكر العلمي أبدا، ولا يعملون على إشاعته، بقدر ما يملئون مختلف جوانب الحياة بالفكر الخرافي، الذي يجعلهم أكثر استعدادا لتقبل واحتضان أدلجة الدين، كما تعتمدها الدولة الرأسمالية التابعة. وقد تحتضن أدلجة الدين الإسلامي، كما تنظر لها التيارات المؤدلجة للدين الإسلامي، الساعية إلى فرض استبداد بديل. والهدف الثالث: جعل الفلاحين الصغار، والمعدمين، الممارسين للزراعة التقليدية، مجرد احتياطي جاهز، للتوظيف من قبل البورجوازية التابعة، في المحطات الانتخابية المختلفة، وفي إطار ما صار يعرف بديمقراطية الواجهة، من أجل تأبيد سيطرتها على أرض الواقع، من خلال الوصول إلى المؤسسات المختلفة، وإلى جهاز الحكومة، الذي يوظف لتنمية مصالح البورجوازية التابعة، في ظل الدولة الرأسمالية التابعة. والهدف الرابع: هو توظيف الفلاحين الصغار والمعدمين، ونظرا لافتقادهم لأشكال الوعي المتقدم، والمتطور في مختلف التظاهرات الإعلامية، التي تقوم الدولة بإنجازها، في مناسبات معينة، للظهور ببسط سلطتها على جميع أفراد الشعب. لأن الفلاحين الصغار، والمعدمين، المرتبطين بالزراعة التقليدية، نشئوا على أن يكونوا رهن إشارة أجهزة السلطة المختلفة ، وفي مقدمتها: الجهاز الإداري. ونظرا للطبيعة الانتهازية لهذه الشريحة الاجتماعية الأكثر تخلفا في المجتمعات العربية، وفي مجتمعات باقي بلدان المسلمين. وهذه الأهداف التي أدرجناها أعلاه، هي التي تحدد ضرورة قيام الدولة الرأسمالية التابعة بالحفاظ على الزراعة التقليدية، وهي التي تحدد، كذلك، أن الدولة الرأسمالية التابعة، لا علاقة لها بالحداثة، في مستوياتها المختلفة، اللهم إلا إذا تعلق الأمر بالشكليات. د- التنوع في التشكيلة الاقتصادية القائمة. لأن التشكيلة الرأسمالية التابعة، تحتضن التشكيلة الإقطاعية، إلى جانب التشكيلة الرأسمالية، ويمكن أن توحي بإمكانية قيام التشكيلة الاشتراكية. مما يؤدي إلى التنوع الطبقي في المجتمع، وفي نفس الوقت، إلى تنوع انتماء نفس الفرد، إلى طبقات اجتماعية مختلفة، ومتناقضة في معظم الأحيان، الأمر الذي أدى إلى بروز مصطلح "عدم الوضوح الطبقي"، لأن معظم أفراد المجتمع، يشتغلون عمالا، وفلاحين في نفس الوقت. وقد نجد العديد من البورجوازيين، ينتمون في نفس الوقت إلى طبقة الإقطاعيين. وقد نجد إقطاعيين يتحولون بقدرة قادر إلى بورجوازيين، ونظرا للفساد الإداري: الاقتصادي، والاجتماعي، فإن العديد من الموظفين، قد يتحولون إلى بورجوازيين، وأن العديد ممن امتهنوا أعمالا غير مشروعة، يتحولون إلى بورجوازيين. وهذا الانتماء إلى طبقات مختلفة، ومتناقضة في معظم الأحيان. هو الذي قاد إلى عدم الوضوح الإيديولوجي، في المجتمعات العربية، وفي مجتمعات باقي المسلمين. لذلك لا نستغرب، إذا وجد سيادة ادلجة الدين الإسلامي، في أوساط العمال، والبورجوازيين، والإقطاعيين، إلى جانب الشرائح العريضة من البورجوازية الصغرى. وتبعا لعدم الوضوح الطبقي، وعدم الوضوح الأيديولوجي، نجد كذلك عدم الوضوح في الممارسة السياسية، بين المستغل (بكسر الغين)، والمستغل (بفتح الغين)، سواء كان هذا الحزب ذا طابع بورجوازي، أو ذا طابع إقطاعي ، أو ذا طابع بورجوازي صغير، أو حتى إذا كان هذا الحزب محسوبا على الطبقة العاملة. وعدم الوضوح الطبقي، والإيديولوجي، والسياسي، هو نتيجة لطبيعة الاختيارات اللاديمقراطية، واللاشعبية، التي تتبعها الدولة الرأسمالية التبعية. فكأن عدم الوضوح، ذلك، بمثابة التضليل الاقتصادي، والاجتماعي، والإيديولوجي، والسياسي، مما لا يخدم في عمق الأشياء، إلا مصالح الطبقة البورجوازية التابعة، والحاكمة، ومما لا يستفيد منه إلا التحالف البورجوازي الإقطاعي المتخلف، وهذا لا تستفيد منه في نهاية المطاف إلا الرأسمالية العالمية. وبناء على هذه القراءة لواقع المجتمع المحكوم من قبل الدولة الرأسمالية التابعة، يمكننا القول: بأن هذه الدولة، لا يمكن أن تعتبر حديثة، لأن عوامل الحداثة غير قائمة في ممارستها. ه- التبعية الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. لأن الدولة الرأسمالية التابعة، قائمة في الأصل على تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمؤسسات المالية الدولية الأخرى. في مقابل ما تتلقاه من قروض تثقل بها كاهل الشعب في كل بلد عربي، وفي باقي بلدان المسلمين، وفي مقابل السماح بتغلغل الشركات العابرة للقارات، وحتى لا يحصل إلا التطور الذي يخدم مصالح الرأسمالية العالمية بطريقة مباشرة، ومصالح البورجوازية التابعة، وسائر المستفيدين من الاستغلال، وسائر أشكال الفساد الاقتصادي، والاجتماعي، والإداري بطريقة غير مباشرة. وفي نفس السياق، فإن الدولة الرأسمالية التابعة، لا تستطيع أن تضع أي تخطيط عام، أو يهم مجالا معينا من المجالات الخاصة، إلا باستحضار توجيهات، وتعليمات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمؤسسات المالية الدولية الأخرى، التي تمد الدولة الرأسمالية التابعة بالقروض اللازمة، بالإضافة إلى الخضوع المطلق اللامشروط لإرادة الشركات العابرة للقارات، التي صارت تتحكم في الدورة الاقتصادية في كل بلد من البلدان العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، حتى تصير المخططات المتوسطة المدى، والسنوية، والقطاعية الوطنية، والمحلية، في خدمة الطبقة الحاكمة، وفي خدمة الشركات العابرة للقارات، وفي خدمة الدين الخارجي، أي في خدمة الرأسمال المحلي، والعالمي، لتبقى الشعوب العربية، وباقي شعوب المسلمين، معانية من الحرمان من الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، ومعانية من الفقر، والجهل، والمرض، ومن أشكال الفساد الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي. ودولة كهذه، تعمل على إغراق الشعوب بالديون، وتلتزم بالإملاءات الخارجية، وتنصاع لإرادة الشركات العابرة للقارات، لا يمكن أن تكون إلا دولة غير حديثة. وانطلاقا من عدم حسم هذه الدولة مع بقايا الإقطاع، ومع أدلجة الدين الإسلامي بالخصوص، ومع التنظيمات المؤدلجة للدين الإسلامي، ومع بقايا الزراعة التقليدية، ومع تنوع التشكيلات الاقتصادية، والاجتماعية، ومع التبعية الاقتصادية، والاجتماعية للمؤسسات المالية الدولية، وللنظام الرأسمالي العالمي، فإن الدولة الرأسمالية التابعة، لا يمكن وصفها بالحديثة، حتى وإن جمعت بين التقليد، والتجديد، وبين الأصالة، والمعاصرة، وبين التمسك بالقديم الأكثر تخلفا، وبين الجديد الأكثر تقدما، فإن هذا الجمع بين المتناقضات في بوثقة لا يحدث فيها الصراع المفترض. لا علاقة له بالحداثة، بقدر ما له علاقة بخدمة المصالح الطبقية للطبقات الممسكة بأجهزة الدولة، في كل بلد عربي، وفي باقي بلدان المسلمين. ولذلك فدولة كهذه هي دولة ضد التاريخ، وضد التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، وضد الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية. ولذلك فهي ليست حديث بالمعنى العلمي للحداثة.