لا يخفى على احد الورش الإصلاحي- السياسي الذي انخرط فيه المغرب، بعد الخطاب الملكي التاريخي الذي من الضروري أن يشكل لحضه مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر، و أن يكون بمثابة قطيعة سياسية جذرية، ينقلنا من دولة الأشخاص إلى دولة المؤسسات و القانون، من دولة التملص من المسؤولية، و افعل ما تشاء و كيف ما تشاء، إلى دولة المراقبة و المحاسبة و المسؤولية، و الفعل و القرار الرصين و المسؤول و التشاركي و المراقب. فلكي يأخذ هذا الإصلاح السياسي حجمه الممكن، يلزم من كل المكونات السياسية، و الفعاليات الجمعوية و النقابية، و كل الفئات الاجتماعية و الثقافية و الإثنية و الدينية... أن تساهم في إنجاحه، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، إما بالفعل أو بالتأثير، إما بالإضافة أو بالنقد البناء و الإيجابي. لكن حتى و لو توفرت هذه الشروط المؤسِّسة و القبْلية لهذا الإصلاح السياسي، و تم إقراره من خلال عملية الاستفتاء الدستوري الشعبي، فإن السؤال الذي يفرض نفسه علينا هو مدى التزامنا كأشخاص بتطبيق هذا الإصلاح و أجرأته على أرض الواقع، و في مجال الممارسة الحياتية و السياسية و المؤسساتية في مختلف أجهزة الدولة و مؤسساتها ! الأمر الذي يفرض علينا فتح نقاش وساع و موسع حول ضرورة الإصلاح الأخلاقي- العقلاني، يكون هدفه هو تمهيد الأرضية و تهيأت الضمائر، الوظيفية و المسؤولة، لأجل أن تكون أمام دورها التاريخي و الأخلاقي في دولة القانون، و المؤسسات، و فصل السلط ، و المسؤولية و المحاسبة. هذا الإصلاح دوره المباشر تشكيل عقلية سياسية و سلطوية قطعت مع تصور دولة الماضي، دولة الشطط في استخدام السلطة، و في استغلال النفوذ، و في السعي لتحقيق المصالح الشخصية و الذاتية و العائلية. لأن الشخص قبل أن يتصور نفسه مسؤولا في كل أفعاله، و في كل قراراته الإدارية و السياسية، أمام القانون، فهو مسؤول أمام الضمير الأخلاقي، الذي يكون صمام الأمان و الضامن لكل إصلاح سياسي ممكن. فلا إصلاح سياسي و دستوري ينفع مع من لا ضمير أخلاقي له. فما نلاحظه في الدول الديمقراطية، على اختلاف ديمقراطياتها و تنوعها، هو حضور المحاسبة الأخلاقية الذاتية قبل المحاسبة القانونية، فما نراه و ما نسمعه من استقالات لمسؤولين سياسيين و حكوميين نافذين بمجرد ما يظهر لأحدهم بأنه اتخذ قرارا إداريا أو سياسيا خاطئا، قبل أن تتم محاسبته بشكل قانوني. إلى جانب التزام مواطني تلك الدول بمجموعة من المعايير و الضوابط الأخلاقية( الإخلاص في العمل، الالتزام بالواجب، الغيرية، احترام حق الأخر...) دليل على أن الإصلاح الأخلاقي- العقلاني هو من له الدور الأساسي في كل الأنظمة الديمقراطية، بالتالي هو أساس كل نظام يريد أن يكون ديمقراطيا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه اللحظة هو كيفية هذا الإصلاح الأخلاقي؟ قبل الجواب، فنحن لا ننكر و جود ضمائر أخلاقية توصف بالحية، توصف بالوطنية، و الملتزمة في مهامها، داخل كل دواليب الإدارة، و في مختلف المناصب السياسية، و التي كان لها الفضل في إخراج المغرب من مجموعة من الأزمات، و مكنته من تخطي العديد من اللحظات المفصلية التي كانت توصف إعلاميا و سياسيا ب "السكتة القلبية". و التي لازال الرهان عليها اليوم من اجل أن تلعب دورا تاريخيا، اكبر مما لعبته في السنوات الماضية، من اجل إنجاح هذا الإصلاح السياسي و سد الطريق أمام كل تلك المحاولات التي تقوم بها بعض جيوب المقاومة من اجل الإجهاض عليه، ليضل الحال على ما هو عليه، و تستمر هي في مص دماء المغرب و المغاربة. أما الجواب عن كيفية هذا الإصلاح الأخلاقي، فهو بسيط للغاية، نظرا لأنه ورش وطني اجتماعي، من غير المعقول، و من غير الممكن أن تخلق له لجنة ملكية، لأن ليس كل شيء بلجنة ملكية. بل يلزمه تدخل و مشاركة كل المواطنين ليكون حديثهم اليومي و الروتيني، من خلال إعادة بناء النسق الأخلاقي و الوعي الأخلاقي لكل فرد منا، مع ترسيخ مبادئ الواجب، و الغيرية، و المسؤولية(مسؤوليتي كمواطن)، و الكشف و عدم التستر عن كل من أو ما يخالف القانون، أو من يقضي مصالحه الشخصية على حساب مصالح الوطن و المواطنين. إضافة إلى مبدأ الالتزام و الإخلاص في أداء الواجب المهني، مع ضرورة احترام حق الأخر كمواطن له نفس حقوقي وعليه نفس الواجبات التي أنا ملزم بها، من خلال عدم استغلال علاقاتي كشخص ببعض المسؤولين من رجال السلطة أو من أي وظيفة أو قطاع إداري معين، من أجل قضاء مصالحي على حساب الأخر. و أن نتجاوز بذواتنا فكرة الرشوة باعتبارها فعلا لا أخلاقيا، لأن استعداد المواطن لإعطاء الرشوة هو ما يجعلها مستشرية في كل مكونات جسم الدولة المغربية، و هو الذي يجعل كل موظف يسيل لعابه عندما يأتي مواطن لقضاء مصلحة ما. فمثلا نجد في بعض الإدارات العمومية من المواطنين من يستغل علاقته الشخصية بحارس الأمن الخاص،فقط، أو مبلغا مالي بسيطا كرشوة(دون أن يطلب منه في أغلب الحالات) من اجل أن يقضي غرضه الشخصي، كي لا يلتزم بذلك الصف الطويل الذي يتكدس فيه العشرات من المواطنين الذين لا يزيد عنهم في وطنيته بأي شيء، فهذا الفعل مثلا، و غيره من التصرفات التي نعيشها بشكل يومي، لا تحتاج لإصلاح سياسي أو للجنة ملكية، بل لإصلاح أخلاقي يمس كل نفوس و عقول و ضمائر المواطنين، من خلال تنشئة اجتماعية و تربية نظامية، و خطب دينية، و لقاءات ثقافية، و وصلات إعلامية... و غيرها من الوسائل، تهدف إلى إعادة بناء وعينا الأخلاقي بكيفية عقلانية سليمة قائمة على فكرة الواجب و الاحترام و حب الغير و الوطن و المصلحة العامة و التضحية...، و تجاوز الذاتية و الأنانية السلبية و التفكير في الذات و في المصلحة الخاصة و لو على حساب الغير...، بهذا الوعي الأخلاقي يمكننا أن نساهم كمواطنين في تغيير أنفسنا و وطننا إلى الأحسن.