القضايا الشائكة، ومنها قضية طقوس الولاء والبيعة، لايمكن النظر إليها على أنها بياض ناصع أو سواد حالك. الأنتروبولوجي عبد الله حمودي يميز في هذه الورقة جوانب الجمال وجوانب القبح في طقوس البيعة كثر الحديث في طقوس البيعة. لقد تعرضت للموضوع في الاستجواب الذي نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي (الجمعة 17 غشت). وظهرت إثر ذلك الاستجواب بعض التعليقات منها أنه يجب الحسم في موقفي، وأهم من هذا، أن المعلقين يريدون مني أن أعرب عن معارضتي لطقوس البيعة، بدلا من الموقف الذي أعلنته. أغتنم هذه الفرصة لتوضيح موقفي مرة أخرى، وأستغرب سوء الفهم الذي عتَّم عليه، عن قصد أو غير قصد، ثم أتطرق إلى موضوع الركوع والإهانة، لأنه أصبح موضوعا ينتهزه الدعويون لتمرير دعايتهم السياسة تحت شعار لا ركوع إلا لله. إن من شأن توضيح الموقف من «الإهانة» و»الركوع»، أن يفصل بين تطلعات كل الذين يتشبثون بقيم العدل والحرية من جهة، وبين جماعات وأحزاب الدعويين، من جهة أخرى. البيعة: هذا تقليد مغربي، أُضفيتْ عليه صفة الشرعية باسم الحفاظ على الجماعة، وضمان صمود الأمة بتجنب الفتن السياسية الداخلية وصد الأخطار الخارجية. وللبيعة في المغرب طقوس خاصة بها عريقة، هي من ابتكار المغاربة، وتظهر جلية في كيفيات الإخراج وجماليته. لكن في تلك الطقوس أيضا ترتيبات وعادة تهدف إلى إخضاع الناس، وإهانتهم وتطبيع صورة لعظمة النظام وسيده، وتركز على تثبيت الهيبة والتعالي اللامتناهي. من بين هذه الترتيبات المهينة على الخصوص تقبيل يد الحاكم والانحناء الذي يشبه الركوع. لقد كتبت الكثير في هذا وحللته في كتابي الشيخ والمريد، وفي مقالات عدة. والجدير بالذكر أنه في البيعة، كما تُباشَر إلى حد الآن، لا يمكن التفريق بين الجمالية والإهانة. لهذا كان موقفي ولا يزال مع من نادوا بالتخلي عن الترتيبات المهينة للكرامة كالانحناء الشبيه بالركوع وتقبيل اليد ومظاهر الخنوع. لكن مع احترام حرية الأشخاص. وبما أنني أومن بالحرية، فإنني أحترم حرية من اختار التقبيل أو الانحناء بتلك الكيفية. إن الأهم في نظري هو بناء المؤسسات الديمقراطية، مع فصل السلط، وبناء الدولة المدنية التي تحترم الحقوق الفردية والجماعية وتحميها قانونيا. واخترت أن أدافع عن نظام الملكية البرلمانية بدستور متوافق عليه غير الدستور الذي لا يحقق ذلك. وإذا تحقق ذلك، فإنه يكون من الصواب أن نحتفظ بالبيعة كاحتفال بمؤسسة بنتها الأجيال وتجسد الاستمرارية. ويكون ذلك الاحتفال منظرا جميلا وجذابا خاليا من الإهانة والقهر. وفي نظري، فإنه بإمكاننا الاعتراف بالاختلاف، وهذا يتم بوسيلة النظم الديمقراطية التي تنظم العيش في إطار الاختلاف. ولكن، يمكن مع الاختلاف، الاحتفاظ بنوع من الاحتفال يجمعنا موسميا في إطار تجديد البيعة على هذا النحو الجديد. وهنا، أيضا، وبما أني أومن بالحرية، فإني أرى أن تضمن حرية عدم المشاركة في هذا الاحتفال المتجدد، لاسيما وأن لنا أعيادا دينية، ولنا احتفاليات أخرى على مدار السنة تبعث في نفوسنا الانشراح، وترفع عنا التشاؤم ولو مؤقتا. الإهانة والركوع: لعلّي وضحت مشكل الإهانة. وفي نظري، إن الإهانة الحقيقية تكمن في ممارسة الإكراه والعنف، أي سلب الحرية. هذه هي الإهانة التي علينا رفضها، ورفض أي مبرر لها. وإذا نحن رفعنا شعار: «الحرية ضد الإهانة»، فسنجد أنفسنا في تناقض مع التيارات والأحزاب التي تنادي برفض الإهانة من منظور ديني يقبل مع ذلك الإكراه في أمور العقيدة والمعاملات. وفي هذه النقطة بالذات، فإن رفضنا للإهانة (نحن الذين نؤمن بالحرية) ليس هو رفضهم للإهانة (التيارات والأحزاب الدعوية)، لأن الرفضَين لا ينطبقان على نفس الظواهر ولا يستندان إلى نفس المعايير. والأمر نفسه يتجلى بوضوح تام في موضوع «الركوع». فالدعويون يسمونه «ركوعا» مع أن لا أحد قبلهم سماه «ركوعا»، إلا ما حصل في إطار تطاحنات سياسية. وقد يقول قائل: إن المعنى الضمني للفعل قد يفضي إلى الركوع، وإن الآلة المخزنية تلعب على المعنى الضمني. وهذا مقبول. لكن كيف يكون الأمر إن نحن جددنا تلك المراسيم وبدّلنا الانحناء المبالغ فيه بانحناء خفيف مفاده الاحترام؟ فلا يبقى هناك لا مبالغة في المعنى من قبيل تسميته بالركوع على غرار ما يفعل الدعويون، ولا معنى ديني ضمنيا. وهذا ما أروم إليه شخصيا. ما هو حيوي اليوم، في نظري، هو فصل موقف كل من آمن بالعدالة والكرامة مقرونتين بالحرية عن موقف الدعويين الذين لايقرنون العدل بالحرية. ويحاربون قيام الدولة المدنية على أساس الحرية والعدل. هذا الفصل الدقيق يمكننا من الوقوف على قولة «الركوع» نفسها، وقولة «لا ركوع إلا لله». ففي القولتين نقف عند تقنية الدعاية السياسية التي تقبع في قلب دعوتهم حيث تطلع علينا «الدعوة إلى الله» في قالب «لا ركوع إلا لله». لأنه حتى في الانحناء التقليدي، والذي أختار شخصيا تجنبه، ليس هناك «ركوع». ولو تأمل الدعويون وغيرهم في الركوع ولو نصف دقيقة لوجدوا أن الركوع من صميم الصلاة، وأنه يحصل بعد التكبير، وليس بدون تكبير في أي حال من الأحوال. وجلي أنه لا تكبير يسبق ذلك الانحناء المبالغ فيه عادة في البيعة كما هي الآن. ومن هنا يأتي السؤال الملح: كيف يمكن لأناس يضعون تدينهم دائما في الواجهة، كما هو الحال بالنسبة إلى نساء ورجال العدالة والتنمية، أن يتناسوا أن الركوع يأتي دائما بعد التكبير وأن لا ركوع من دون تكبير؟ والجواب هو أن الدعاية السياسية تسكن في مقولتي «الركوع»، و«لا ركوع إلا لله». وأنها أيضا تكمن في الدفع بمظاهر التدين إلى الواجهة، وذلك على حساب البرامج الاجتماعية الجدية والبرامج التحررية. لهذا فإن إصلاح طقوس البيعة من منظور تحرري لا يمكن خلطه مع موقف الدعويين من البيعة وتجديدها سنويا. إن تقنيات الدعاية عند الدعويين كما عند النظام القائم هي تقنيات متطورة للغاية. ومن أساليب هذه الدعاية أنها تدفع إلى الساحة باهتمامات تصبغ عليها صبغة الأولوية. أجل إن الانشغال بحذف المظاهر المهينة في البيعة أمر حيوي، ويجب النضال من أجله طالما لم يتحقق بعد. ومع ذلك فإن التعبئة من أجل إنقاذ البلاد من مخلفات الفقر والفساد والاستبداد، تبقى مطلبا ذا أولوية. وهو مطلب يستدعي جبهة مدنية قوية ذات نفس طويل.