تونس هي الدولة العربية الوحيدة الذي تمنع تعدد الزوجات قانونيا. ونصت أول مدونة للأحوال الشخصية سنة 1956، أربعة أشهر بعد الاستقلال فقط، على أن « تعدد الزوجات ممنوع ». أكثر من هذا، تضمنت المدونة عقوبات جسدية ومالية في حق المخالفين. « كل من تزوج وهو في حالة الزوجية.. يعاقب بالسجن لمدة عام »، يقول الفصل 18. ساهم في صياغة المدونة عدد من كبار رجال الدين في البلاد، مثل عميد جامعة الزيتونة محمد الطاهر بن عاشور ومفتي الديار التونسية محمد عبد العزيز جعيط. لم يتردد هؤلاء الفقهاء، الذين يحسبون على التيار الإصلاحي، في الموافقة على مساعي الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في إلغاء التعدد نهائيا، دون أن يعتبروا أنفسهم يناقضون أصلا من أصول الشريعة. بنى الطاهر بن عاشور وعبد العزيز جعيط اجتهاداتهما على مبادئ الفقه المقاصدي الذي يتخذ من المقاصد والغايات الكبرى للدين أساسا لفهم الشريعة وتنزيل أحكامها. وظهرت اجتهادات مشابهة في دول عربية أخرى تأسست بدورها على الفقه المقاصدي. ركزت هذه الاجتهادات على فكرة أن الرجل غير قادر على تحقيق العدالة بين زوجاته (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). لذا يجب على الدولة أن تتدخل لمنع التعدد حفاظا على حقوق النساء وأطفالهن. لكن أغلب هذه الاجتهادات لم تجد طريقها إلى القانون في أغلب البلدان، مثلما حدث في تونس. التحرير والتنوير أسس محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973)، في كتابه « التحرير والتنوير »، فتواه بجواز منع التعدد على الآية الثالثة في سورة النساء (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). وهي الآية نفسها التي يعتمدها أغلب الفقهاء لتشريع التعدد. اعتبر بن عاشور أن الآية ربطت بين تعدد الزوجات و الحفاظ على حقوق اليتامى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا…) يقول: « اعلم أن بين عدم القسط في يتامى النساء وبين الأمر بنكاح النساء ارتباطا لا محالة وإلا لكان الشرط عبثا ». وجاء في كتاب « التحرير والتنوير » أيضا: « إن الأمر بنكاح النساء وعددهن في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى مما خفي وجهه على كثير من علماء سلف الأمة ». تأثر الفقيه التونسي بآراء الشيخ اللبناني محمد رشيد رضا الذي رأى أن تعدد الزوجات « يفسد البيت ». وجاء في « تفسير المنار » لرشيد رضا: « إذا تأمل المتأمل ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد، جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي فيها أمة فشا فيها تعدد الزوجات، فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم فيه نظام بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو لآخر، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ومن البيت إلى الأمة ». وشارك أفكار محمد الطاهر بن عاشور في موضوع منع التعدد الشيخ عبد العزيز جعيط الذي شغل منصب أول مفتٍ للجمهورية التونسية (1957-1960). في مصر والمغرب مفتي مصر في أوائل القرن الماضي محمد عبده (1849-1905) دعا بدوره إلى منع التعدد. وأصدر فتوى يقول فيها « يجوز للحاكم رعاية للمصلحة العامة أن يمنع تعدد الزوجات بشرط أو بدون شرط حسب ما يراه موافقا لمصلحة الأمة ». ووافق عبده على تعدد الزوجات في حالات استثنائية، مثل الحروب حيث يقل عدد الرجال ويكثر عدد النساء والأرامل. وقدم اقتراحا للحكومة لوضع نظام يقيد تعدد الزوجات، لكن هذا الاقتراح فشل. وقدم تلامذته مقترحات شبيهة سنة 1928 عند تأسيس لجنة لتعديل بعض مواد مدونة الأحوال الشخصية. لكنها فشلت أيضا. في كتابه « النقد الذاتي »، قال علال الفاسي إنه مع « منع التعدد مطلقا »، وهو المنع الذي ما زالت مدونة الأسرة في المغرب لا تتضمنه بعد مرور 70 عاما على كتاب علال الفاسي. برر الفاسي رأيه بالتجربة الإسلامية في مجال التعدد. يقول « التجربة التي لاحظناها طول التاريخ الإسلامي تدل على أنه باستثناء العصور الأولى، فإن أغلبية المسلمين استعملوا التعدد في غير موضعه الشرعي ». في الأخير، يؤكد السياسي والفقيه المغربي بوضوح: « إنني أقرر الرأي بكامل الاطمئنان النفسي الذي يمليه علي إيماني بأن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان، ورجائي أن يكون في هذه الاعتبارات التي أبديتها ما يحقق تطبيق مبدأ الإصلاح الإسلامي بمنع التعدد مطلقا في هذا العصر، إقامة للعدل، وتقديرا للمرأة، وحماية للإسلام ». قانونيا، بقيت مطالب علال الفاسي حبرا على ورق، رغم أن مدونة الأسرة في المغرب (2004) أعطت المرأة الحق في أن تشترط على زوجها عدم الزواج بامرأة ثانية، وأن تستدعى لأجل الموافقة.