قال الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة بمناسبة انعقاد المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب الذي تستضيفه هيئة المحامين سنة 2000، وجه الملك محمد السادس رسالة سامية إلى المحامين بمناسبة اجتماع المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب في دورته الثانية التي انعقدت في ضيافة هيئة المحامين بالدارالبيضاء، عبَّر الملك في مستهلها عن اعتزازه « بالانتماء لأسرة الحق والقانون »، وما يوليه من تقدير خاص لهيئة المحامين، الذين يتقاسمون وأسرة القضاء أمانة إقامة العدل، « الذي جعلناه، يقول الملك، أساس مشروعنا المجتمعي الديموقراطي الحداثي ومبتغاه ». ثمان عشرة سنة مرت، قطع خلالها المغرب مساراً بعيداً في تنزيل مشروع إصلاح نظام العدالة. وها أنتم أعضاء المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، تعقدون اجتماعكم السنوي الثاني لهذه السنة في مدينة وجدة، التي تصبح عاصمة للمحامين العرب لبضعة أيام، تصدح فيها حناجركم، ووراءها قلوب ملايين العرب، بنداءات العدل والإنصاف، والدعوات للسلم والتآخي والتآزر والوحدة وَلَمْ الصَّفْ العربي بلغة القانون وبلسان الحقوق … وأما نحن المغاربة، الذين كنا نتلمس أشعة الشمس وهي تطالعنا كل صباح من مدينة الزيري ابن عطية لتغرب عند مياه المحيط الأطلسي، فإننا نسعد طيلة هذه الأيام بشمس لا تغيب عن وجدة .. التي يغرد فيها هذه الأيام النغم الحقوقي والقانوني المعبر عن أمال المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج .. في مجتمع يسوده العدل والمساواة .. يتكلم لغة القانون، ويتنفس نفس الإنصاف ويغمض عينيه في اطمئنان على هدوء الأمن القضائي. ثمان عشرة سنة مضت على دورة القدس. وهذا هو الاسم الذي أطلقه اتحاد المحامين العرب على دورته الثانية لسنة 2000 بمدينة الدارالبيضاء، قطعت فيها العدالة المغربية – بقيادة الملك – شوطاً بعيداً من الإصلاحات الدستورية، حيث أنتج دستور 2011 سلطة قضائية باعتبارها السلطة الثالثة في الدولة. إذ قبل ذلك يضيف عبد النباوي لم يكن القضاء سلطة من سلطات الدولة. وأصبحت هذه السلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، يدبر شؤونها المجلس الأعلى للسلطة القضائية برئاسة الملك، وبعضوية قضاة وشخصيات مستقلة لا تنتمي للسلطتين التشريعية والتنفيذية. وتميزت التجربة المغربية بميلاد مؤسسة مستقلة لإدارة مهام قضاة النيابة العامة، يرأسها الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية. الذي استلم السلطات على النيابة العامة باعتباره رئيسا لها منذ سنة خَلت، في اليوم السابع من أكتوبر من السنة الماضية. وفيما يلي بقية كلمة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة بمناسبة انعقاد المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب الذي تستضيفه هيئة المحامين بوجدة أيام 25 و26 و27 أكتوبر 2018 ولذلك فإن اجتماع مكتبكم الدائم – معشر السادة المحامين العرب، يأتي في خضم مرحلة تاريخية حاسمة من حياة المؤسسة القضائية بالمملكة المغربية، أصبح فيها القضاء سلطة دستورية مستقلة عن سلطتي البرلمان والحكومة. وتعمل مؤسساتها القيادية (المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة) على بناء هياكل المؤسسة وتوطيد استقلال السلطة الذي يضمنه الملك بمقتضى الدستور. حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛ إن استقلال السلطة القضائية لم يقرر لفائدة القضاة أنفسهم، وإنما تقرر لفائدة المتقاضين، حتى يتمكن القضاة من البت في النزاعات دون إعطاء الاعتبار لجهة ما أو سلطة أخرى، غير سلطة القانون وحده. وقد حرص الملك على تأكيد هذا المعنى لاستقلال القضاء في الرسالة السامية التي وجهها لمؤتمر العدالة الأول بمراكش في مطلع شهر أبريل من هذه السنة (2018). إذ قال الملك : « إن مبدأ الاستقلال لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضي، وإنه إذ يرتب حقاً للمتقاضين، فكونه يلقي واجباً على عاتق القاضي. فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من القانون وحده مرجعاً لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سنداً لاقتناعه. وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية ». وإذا كان استقلال القضاء يتجسد في استقلال القاضي، الذي يتجلى في حمايته من مختلف التأثيرات، فإن تحقيق هذا النوع من الاستقلال ليس رهينا بسلطات الدولة وحدها، بقدر ما يتطلب شجاعةً من القاضي في الدفاع عن استقلاله .. ولكنه يحتاج كذلك إلى مساهمة المحامي في حماية استقلال القضاة والدفاع عنه. ولا يتأتى الدفاع عن استقلال القضاة بمجرد رفع الشعارات. ولكنه يتحقق بالمواقف الشامخة التي طالما عبر عنها نقباؤنا ومحامونا وهيئات الدفاع التي ترفض ممارسة كل أساليب الضغط على القضاة للتأثير في قناعاتهم وأحكامهم، بأساليب مثل تحرير العرائض أو تنفيذ الوقفات الاحتجاجية للتأثير على القضاء. إن الدفاع عن استقلال القضاء هو من صميم أخلاقيات مهنة المحاماة الشريفة. حيث يجب استحضاره من طرف المحامي، سواء أثناء ممارسة مهام الدفاع أو بمناسبة الخوض في قضايا العدالة في منابر أخرى، حيث يقتضي شرف المهنة أن يتم التعبير عن الأفكار وبسط الانتقادات باحترام لمقام القضاء، الذي يعتبر المحامي – في المغرب – جزء منه. ولذلك فإن سلوك المحامي خلال ممارسته مهامه ليس محكوما بقواعد المسطرة والقوانين الإجرائية وحدها. ولكنه ينبغي أن يستحْضر نبل مهنة المحاماة وقدسية رسالة هيئة الدفاع، التي تتعبد في محراب العدالة. إنها مهنة شريفة، قال عنها هنري روبير وهو نقيب سابق للمحامين بفرنسا: « ما من وظيفة عدا وظيفة القضاء أشرف من المحاماة. وهذا الشرف هو المقابل لمجهود من يمارسها والموجب للصفات التي يمتاز بها عن غيره. والأصل فيها نبل الشرف وخدمة العدالة ومساعدة صاحب الحق على أخذه ومقاومة الباطل والمبطلين ». أيها السادة .. إنني أتحدث عن النبل والشرف .. إنها قيم يتطلب استحقاقها جهاد النفس ومقاومة الأهواء .. ويتطلب الاحتفاظ بها مثالية في السلوك وانضباطاً لأخلاقيا