يلاحظ نوعا من الفوران السياسي حول مشروع التقطيع الجهوي الذي أصبح مطروحا للنقاش على الأقل إداريا، ورغم أن الاختصاص في مجال التقطيع الترابي عموما يعود للسلطة التنظيمية ولا يدخل في المجال التشريعي على عكس ما يعتقده كثيرون، فإن للسلطة التنظيمية الحق المطلق وفقا لمعايير وحتى لتوجهات سياسية إنجاز أي تقطيع معين تراه الأنسب لبلادنا وفقا للفصل 71 من الدستور الذي حدد مجال الاختصاص التشريعي في تحديد مبادئ التقطيع دون غيرها. وحتى لا نلغي الذاكرة من نقاشات الحاضر، فعندما وضع تقطيع 1997 والذي حدد 16 جهة، قامت الدنيا وعاش المغرب صخبا كبيرا، لدرجة أن الراحل الملك الحسن الثاني تدخل ليؤكد للجميع أن التقطيع المطروح آنذاك مجرد تجربة ستخضع لإصلاحات وتحولات، وتحفظ الجميع وأجل النقاش واستمرت الحالة على ما كانت عليه، وهيكل المستثمرون أنفسهم استنادا على ذلك التقطيع، وأما المنتخبون فكل هيكل دائرته لتكون في خدمة مصالحه الانتخابية، وقيل أنداك أن التقطيع الجهوي سيغير الخريطة السياسية في المغرب، ولكن حربائية منتخبينا سايروا ذلك التقطيع وتحولوا وانسجموا تدريجيا معه، ليكون في خدمتهم ويضمن استمرار هيمنتهم الانتخابية.
فالنقاش حول التقطيع الجهوي يطرح اليوم أكثر من سؤال، كيف سنقوم بالتقطيع؟ وعلى أية معايير؟ وبناء على أية أهداف؟، فمن الصعب أن نقبل علميا أن يتحول التقطيع إلى هدف في حد ذاته إلا إذا كانت فيه مصلحة ذاتية مرتبطة بحسابات انتخابوية شوفينية، لكون التقطيع في الأصل هو وسيلة للوصول إلى نظام لا مركزي يستند على تفويض البعض من سلطة المركز في إدارة الشأن العام إلى الجهات مقابل الحفاظ على وحدة الوطن ووحدة الدولة وإنشاء نخب جهوية تساهم في إدارة الدولة من خلال الجهة.
وهنا لا يمكن أن يكون التقطيع مسالة مسطرة وقلم، بقدر ما يكون رسم لأهداف كبرى تنموية سياسية اقتصادية ثقافية واجتماعية، وهذا ما يجعل من التقطيع تلك الشجرة التي تخفي الغابة، فكيف نجعل موضوع الجهة في استقلاليتها ننتج الثروة، وفي انتمائها للوطن من خلال مبدأ التضامن والتعاون مع باقي الجهات نخلق تنمية وطنية شاملة.
في الحقيقة كانت هذه الأسئلة تضغط على ذاكرتي ونحن نتتبع النقاش الجاري حاليا حول التقطيع الجهوي، فعدت إلى خلاصات اللجنة الاستشارية للجهوية التي لم يقرأ تقاريرها جل الذين يناقشون التقطيع الجهوي اليوم، فقط تحكمهم أحكاما تستهدف الحفاظ على دوائرهم الانتخابية وكراسيهم التمثيلية جماعيا و جهويا و برلمانيا، حيث من خلال مضمون هذا التقرير يمكن أن نلاحظ بشكل إيجابي أنه حاول بقدر المستطاع أن يكون مصدرا علميا لعملية التقطيع، بحيث تغيب فيه السياسة بشكلها الجزئي، بل حاول الاعتماد على عناصر ثارة عشوائية وثارة أخرى مختلفة و مستقلة عن القرار السياسي، كحجم المكالمات الهاتفية بين الجهات مثلا، ونسبة التزاوج بين الجهات والعائلات، مستحضرة في الوقت نفسه البعد التاريخي والعناصر الجغرافية في تحليل صعوبات التقطيع، واستخلصت بدورها في الأخير إلى أن التقطيع الجهوي ليس هدفا ولكن مجرد وسيلة فقط.
كنا نتمنى أن ينكب النقاش على جوانب هامة في التقسيم الجهوي، وعلى رأسها مضمون اختصاصات الجهات في ارتباطها باختصاصات الولاة والعمال، ومدى تقوية استقلالية الجهات عن سلطة المركز وتمكينها من الوسائل المالية والتنظيمية لضمان حسن سيرها، لكون التقطيع لا ينشئ حدودا ولا يخلق دولا داخل الدولة، ولكنه يبلور مفهوما جديدا لإدارة الشأن العام، غير أن المنتخبين يريدون من التقطيع أن يرسم لهم حدودا دقيقة لدوائرهم الانتخابية التي يضمنون فيها نجاحهم الانتخابي وهذا لا يليق بممثلي الأمة وبمن تهمه مصلحة البلاد أولا وأخيرا.
فالجهوية مكسب وطني وتطور سياسي وتكريس ديمقراطي لا يمكن مطلقا أن نتزايد فيه من أجل كرسي برلماني أو رئاسة جهة أو حتى رئاسة جماعة، يتوجب على الأقل أن نكون موضوعيين مع أنفسنا ومع وطننا، وأما إذا ارتأى البعض تشويه النقاش وتحويره عن إيجابيته الديمقراطية من أجل موقع انتخابي خاص به، فما عليه إلا أن يتقدم بطلب لإضافة جهة أخرى تهم دائرته الانتخابية وعلى مقاسه ليضمن لنفسه موقعا لإدارة الشأن العام، عفوا لإدارة الشأن الخاص بمفهومه العام، فهناك كائنات انتخابية لا يهمها سوى الحضور الجسدي لضمان حسن حماية مصالحها الفردية ولا تثيرها لا معاناة المغاربة ولا متطلبات المرحلة، بل لا تملك مطلقا حتى القدرة على التفكير للمساهمة في بناء دولة المؤسسات وفقا للدستور الجديد من أجل ضمان تنمية اقتصادية تكون في خدمة المواطنين وتضمن حقهم في ممارسة حرياتهم، أي لا يهمها استقرار الدولة أساسا والذي أصبح معادلة تفرض علينا إدراك أن مؤسسات الدولة بكل مكوناتها إن لم تستهدف مصلحة المواطن فإن كل ذلك يتحول إلى خطر على الدولة نفسها وخطر على استقرارها بل وخطر عليه هو نفسه الذي تعود شراء الأصوات، ولكن هل لنا القدرة أن نشتري الاستقرار؟ دعونا نفكر قبل أن نتكلم.