شكل التمثل الفلسفي العميق للعدالة كما جسده سقراط وهو يتجرع السم احتراما لقرار المحكمة، فلتة تاريخية نادرة في تاريخ الإنسانية الموسوم بالتوجس والتبرم من أحكام القضاء، لذلك سرعان ما اهتدت القوانين الجنائية في مختلف الأنظمة الديمقراطية إلى أنه لا سبيل لفرض الاحترام النسبي للأحكام القضائية إلا بتجريم تحقيرها. دون أن يعني ذلك تقديسها ومصادرة الحق في مناقشتها أو انتقادها، متى انضبطت المناقشة للصرامة العلمية، بما تفرضه من وجوب الاطلاع على حيثياتها وأسانيدها ومقاربتها داخل بنية إنتاجها، وسوق الدليل المقبول قانونا على فساد عللها، وهي حتما مهمة نخبوية لا تبوح بكامل أسرارها لغير العارفين بالمساطر القضائية. التي تظل – للأسف – بحكم طبيعتها التقنية المعقدة عصية الفهم على العامة. لا يعد الأمر قدرا محتوما على مجتمعات التخلف التاريخي التي يكبلها الجهل وتنخرها الأمية، ولكنها ظاهرة كونية حتى لدى الدول مضرب المثال في الرفاه والديمقراطية. ف91 % من الفرنسيين مثلا يعتبرون النظام القضائي صعب الفهم، و61% يرون أن القضاة ليسوا بالصرامة المطلوبة، و54% يحملون صورة سيئة على القضاة وأحكامهم ( نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة IPJ منشور بالموقع الالكتروني لجريدة لوفيغارو الفرنسية بتاريخ 03/03/2014). في الدول التي تحترم حرية الرأي والتعبير قلما يتم اللجوء إلى المقاربة الزجرية لقمع الانزلاقات العاطفية الماسة بالاحترام الواجب لقرارات القضائية، لاعتبارات متعددة لعل أهمها التماس العذر للجهل المتنامي بميكانيزمات صناعة الأحكام، وتسامي القضاة بحكم طبيعتهم الرصينة والمحافظة عن الجدال السياسوي والنأي عن التجاذبات المجتمعية، وتكوينهم القانوني الصارم الذي لا تنال منه انفلات مشاعر الجماهير من عقالها، فحكم القاضي المكتوب هو عنوان الحقيقة التي نطق بها طبقا للقانون داخل قاعة المحكمة ( للوقوف على مستويات وآليات قراءة الحكم القضائي يرجى الرجوع إلى أشغال الندوة المنشورة بCahiers philosophiques, « Le travail du juge », 147, 2016 ). لذلك مثلا لم يتأثر قضاة محكمة PAMPELUNE الاسبانية في أبريل 2017 بعريضة وقعها أكثر من مليون ونصف اسباني وبالمسيرات التي شارك فيها أكثر من 100 ألف شخص ولمدة 3 أيام احتجاجا على حكم اعتبر مخففا قضى بالسجن النافذ لتسع سنوات وغرامة 50 ألف أورو لكل واحد من الشبان الخمسة من أجل ممارسة الجنس على فتاة (18 سنة) معاقة ذهنيا وتصويرها بهواتفهم النقالة وتحميل الفيديو على الواتساب تحت عنوان « قطيع الذئاب »، استأنفت النيابة العامة الحكم، وسارعت حكومة المحافظين بقيادة ماريانو راخوي إلى إعلان شروعها في دراسة إمكانيات تعديل القانون الجنائي. وبقدر ما تتجذر ثقافة احترام السلطة القضائية داخل المجتمع بقدر ما تزداد الغيرة والحرص على التعاطي بصرامة مع أي مساس بها. تقدم فرنسا الأنوار نموذجا مثاليا على ذلك، ففي 12 أكتوبر 2016 حرك وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بباريس الدعوى العمومية في مواجهة المسؤولين عن 3 منظمات حقوقية (عصبة حقوق الانسان /LDH، جمعية إعلام ودعم المهاجرين GISTI، ونقابة القضاة SM)، من أجل تحقير قرار صدر عن استئنافية باريس في مارس 2015 رفض اعتبار متهم مالي الجنسية حدثا في وضعية صعبة بعلة أن هيئته الظاهرة لا تسعف في الجزم بأنه قاصر. اعتبرت التنظيمات الحقوقية المذكورة أن المحكمة لم تتجرد فقط من كل حس إنساني ولكنها أجهضت القانون. وفي الوقت الذي تشبث الدفاع بكون عبارات البيان هي تعليق معلل على الحكم، نحت النيابة العامة إلى تجريم عباراته لخلوها من أية نفحة علمية أو مناقشة تقنية، مما يجعلها محض تحقير للقضاء يقتضي المؤاخذة، وللدلالة البيداغوجية للمتابعة اكتفت بالمطالبة ب 2000 أورو كغرامة عقب الإدانة. إن مناقشة حدود النقد المباح غير المتخصص للأحكام القضائية، وتخوم حرية التعبير في مواجهة الاحترام اللازم للقضاة وأحكامهم، هو بالجزم إشكالية حقيقية حتى في الأنظمة التي تُصَدر قيم الحداثة والديمقراطية. فبمجرد تحريك الدعوى العمومية تصبح ملكا للمجتمع فيتتبع إعلاميا مجرياتها ويتفاعل عاطفيا مع شخوصها إلى الحد الذي يعتقد معه أنه يملك شرعية الحكم الصائب على الأحكام الصادرة في موضوعها. إن ترسيم استقلالية السلطة القضائية بتقاليد عريقة في الممارسة لم يمنع القضاء الفرنسي من الدخول في مواجهة تصحيحية بالبيانات الصحافية والأحكام القانونية من أجل التصدي للإهانات التي يتعرض لها بين الفينة والأخرى لاسيما من بعض رجالات السياسة. ففي مارس 2013 أحالت النيابة العامة بابتدائية باريس الكبرى السيد HENRI GUANIO البرلماني عن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية UMP ومستشار الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي على الغرفة 17 بالمحكمة الجنحية من أجل إهانة القضاء وتحقير مقرر قضائي، بناء على الشكاية التي تقدم بها اتحاد نقابات القضاة USM ( النقابة الأكثر تمثيلية ) في مواجهته إثر التصريحات الصحافية العديدة التي أدلى بها معتبرا المتابعة التي حركها قاضي التحقيق Jean Michel Gentil في مواجهة ساركوزي في ملف مالكة شركة التجميل لوريال Bettencourt بمثابة إهانة لفرنسا وعار على جبين القضاء. تسمح قراءة الاجتهاد القضائي بتكوين فكرة عن حدود التماس بين النقد المباح للأحكام وبين تحقيرها وإهانة سلطة إصدارها. ويكفي الاطلاع على مدونة دالوز الجنائية الفرنسية وهي توثق الأحكام تعليقا على المادة 434-25 ( الذي يعاقب على إهانة القضاء وتحقير قراراته) للوقوف على التطور التاريخي لجنحة الإهانة، ففي قرار يعود إلى سنة 1855 اعتبرت محكمة النقض الفرنسية إهانةً التعجب الاستنكاري الذي أبداه شخص في مواجهة القاضي عقب إصدار الحكم بالقول » « Voilà un jugement qui mérite d'être encadré »»، » وفي سنة 1964 اعتبرت إهانة وصف قرار قضائي بأنه: «chef-d'œuvre d