كنت نائمة أو على وشك النوم، فى اللحظات الساقطة بين الوعى واللاوعى، بين اليقظة والحلم، هى أجمل لحظات العمر، وأكثرها تحليقا فى الخيال الذى تخفيه الحقيقة، وأعظمها قدرة على اقتحام الممنوع (علنا) والمباح سرا، المحظور على النساء فقط والفقراء، المسكوت عنه فى صخب الكلام والخطب، المهدر حقوقه فى الظلمة والصمت. تسللت الموسيقى خافتة ناعمة، من خلال الجدار بينى وبين جيران لا أعرفهم، أصبحت من الكائنات المكتفية بذاتها دون البشر أجمعين، لا أذكر من قال الآخرون هم الجحيم، لم أعد فى حاجة لشهادة بحسن السير والسلوك، أو لجائزة فى العلم أو الأدب، أو لصورة مع حاكم جديد أو قديم.
لا يكشف حقيقة الشهادات والجوائز إلا التاريخ، ولا يحتاج لختم الدولة أو بصمة المأذون من يعيشون بعد الموت، نجح الجدار فى امتصاص كلمات الأغنية، لم يتسرب إلى أذنى إلا اللحن الموسيقى كرائحة الياسمين، تذكرنى بالحب وأنا تلميذة صغيرة بريئة، متأهبة للموت من أجل الوطن والحب، كيف ارتبط حب الوطن بذاك الحب؟ ربما هى أغنية سمعتها فى الطفولة، أو نشيد وطنى يربط بين الثلاثى المقدس «الله. الملك. الوطن» كنا نرددها كل صباح بالمدرسة، حتى سقط الملك متهما بالفساد، وأصبحت الإذاعات تغنى «الله. الزعيم. الوطن» حتى مات الزعيم مهزوما بأعدائه المستعمرين، وجاء الرئيس المؤمن يغنى له الجميع، حتى قتل بأتباعه المؤمنين، ثم جاء حاكم جديد يغنون له كبطل النصر، حتى سقط متهما بالفساد والاستبداد، ثم جاء الرئيس الإسلامى ونال من الغناء أكثر من السابقين حتى سقط وراء القضبان، واليوم يغنون للحاكم الجديد. كلمات الأغنية امتصها الجدار، لكن اللحن الموسيقى كرائحة الياسمين ذكرتنى بحب الوطن، والحب الثانى المرتبط بالأول، كاد يدمرنى الحلم الثنائى المزدوج، لولا أبى وأمى وحبهما الكبير، لا يأتى الشفاء التام من البراءة والجهل إلا بدراسة التاريخ، لا شىء يكشف فساد الحاضر إلا فساد الماضى، ولا حب حقيقيا بعد موت الأم والأب.
تحتاج الدول (الطبقية الأبوية) إلى شعب ساذج (جاهل) يحبها لوجه الله (دون مقابل) ويموت من أجلها، وإن اكتسب الشعب بعض الوعى فإنه يقوم بثورة ضدها، لكن الدولة قادرة دائما على إجهاض الثورة تحت اسم الثورة، والقبض على السلطة والثروة تحت اسم الدولة، ويحتاج الرجل إلى فتاة ساذجة (جاهلة) تحبه لوجه الله، دون مقابل، وتضحى بحياتها من أجله، وإن اكتسبت الفتاة بعض الوعى، بعد دراسة التاريخ، فهى قادرة على التمرد واكتساب بعض الحقوق، لكن الدولة قادرة على سلبها حقوقها وإعادتها لنقطة الصفر، تحت اسم القانون والشرع.
وتسألنى الصديقة، ألا يوجد فرق بين الدول الرأسمالية والاشتراكية؟ اليمين واليسار؟ أو بين الرجل العلمانى والرجل الدينى؟ قلت، كلها تحكمها القوة وليس العدل، ويقوم الحب الناجح على السلطة والثروة، وأرخص أنواع الحب لوجه الله (بلا مقابل) للمرأة والوطن، ضحكت صديقتى وقالت، الوجوه التى أحاطت بناصر والسادات ومبارك ومرسى، هى نفسها أراها اليوم تحيط بالسيسى، ربما هم أو أولادهم، فالملامح هى نفسها، ونبرة الصوت، والضغط على مخارج الألفاظ بطريقة مدهشة، وسألتنى، ومتى يكون الحب غير رخيص؟ قلت، حين يكون صادقا، ومتى يكون الحب صادقا؟ قلت، حين تكون الدولة صادقة، ومتى تكون الدولة صادقة؟ حين تكون القوانين عادلة فى الحياة العامة والخاصة، فى البيت والعمل والشارع، ولا تفرق بين أفراد الشعب على أساس الطبقة أو الدين أو الجنس أو......،