رسالة أحمد دومة من السجن، المنشورة فى جريدة «المصرى اليوم» (أول مايو 2014)، ذكرتنى برسالتى من سجن النساء بالقناطر الخيرية منذ ثلاثة وثلاثين عاما، نشرت رسالتى فى الصحف بعد اغتيال السادات وخروجى إلى بيتى بالجيزة، ومنها هذه الكلمات: اقترفت فى حقى جريمتان، الأولى إدخالى السجن دون تحقيق ولا جريمة، أما الثانية فهى تشويه سمعتى وأنا داخل زنزانتى لا أملك وسائل الدفاع أو الرد، ويزيد من بشاعة الجريمتين أننى أقرأ فى الصحف اليوم كلمات هى نفسها التى سبق أن كتبتها، والتى بسببها دخلت السجن، لكنهم اليوم أصبحوا يتسابقون لكتابتها بمثل ما تسابقوا بالأمس لإدانتها، إنهم النخب ذاتها، الصحفية والأدبية والسياسية، التى أحاطت بالسادات أصبحت تحيط بالحاكم الجديد (حسنى مبارك)، وكانوا يرفعون السادات إلى مصاف الأولياء الصالحين، ويهبطون بنا ونحن داخل الزنازين إلى أسفل سافلين، مع الخونة والشياطين، المتآمرين ضد الله والوطن والدين، وبعد اغتيال السادات وخروجنا أبرياء، انقلبت هذه النخب على عقبيها، وملأت الدنيا ضجيجا عن بطولتنا، نحن الوطنيين الشجعان، الذين عارضوا الحاكم المستبد، ودخلوا السجون دفاعا عن الحق، ثم خرجوا دون أن تنحنى رؤوسهم. بعض هذه النخب العظيمة زارونى فى بيتى المتواضع بالجيزة، وقد نسوا أو تناسوا ما كتبوه ضدى وأنا فى السجن، وبعضهم أرسل لى برقيات تهنئة وباقات ورد، وكانوا قد أرسلوا برقيات تهنئة للرئيس الجديد (حسنى مبارك) الذى أصدر قرار الإفراج عنا، وبعد ثلاثة وثلاثين عاما يكتب أحمد دومة (من سجنه) واصفا هذه النخب الجالسة إلى موائد كل حاكم، الطافية على كل سطح، كتب يصفها بكلمات تكاد تشبه كلماتى منذ 33 عاما، ولم يكن مولودا حينئذ، كتب أحمد دومة عنهم يقول: «والأسهل اتهامنا وتشويهنا من ذات الأشخاص زمن كانوا قبل بضعة شهور، يتغنون ببطولتنا وبسالتنا ونضالنا، هكذا.... الدنيا فى بلادى لا يدوم لها حال.... حتى أصدقاؤنا القدامى يعلمون جيدا، وهم أصدقاء السلطة اليوم، أن الوعود التى حصلوا عليها مرارا لم تكن سوى استهزاء لن يتوقف بهم، واستخفاف بقيمة مطالبهم ووضع لهم فى موضعهم الصحيح كتوافه لا قيمة لها ولا لكلامها، لكنهم يقينا سيتعامون عن ذلك كله، ولن يتوقفوا عن التطبيل والتهليل للسلطة، لأن المصلحة معها ليست حبا ولا اقتناعا بقدر ما هى يقين بأن عقوبة التجرؤ على المواجهة أو حتى الحديث غالبا، ستكون صحبتنا فى الزنازين المجاورة، حقا اعتياد الراحة ينسى المرء حتى المناضلين خشونة البرش ووحشة الزنزانة ولذة التضحية، وقع أحمد دومة رسالته بلقب «شاعر وعضو اتحاد الكتاب» فتذكرت أننى كتبت من السجن رسالة إلى رئيس اتحاد الكتاب حينئذ، توفيق الحكيم، وإلى يوسف إدريس، زميلى فى لجنة القصة، طلبت منهما إرسال مندوب عن اتحاد الكتاب ليشهد زنزانتنا التى لا تصلح للحيوانات، لم يرد توفيق الحكيم ويوسف إدريس، كلاهما لزم الصمت المطبق، حتى خرجنا من السجن بعد ثلاثة شهور وموت السادات، كان الصمت هو موقف اتحاد الكتاب حينئذ، ولا أعرف موقفه اليوم، فأنا لا أتابعه منذ حذف اسمى من لجنة القصة، وغيرها من المجالس الأدبية، أقول لأحمد دومة وزملائه وراء القضبان، استفيدوا من تجربة السجن فهى من أكثر التجارب إلهاما وإنعاشا للإبداع، وفى ثلاثة شهور فقط داخل السجن أنجزت كتابا من أهم أعمالى الأدبية بعنوان «مذكراتى فى سجن النساء» رغم أن القلم كان ممنوعا وأخطر من الطبنجة بلغة مأمور السجن. إحدى المسجونات (فى عنبر الدعارة) أعطتنى قلم حواجبها (خلسة) مع لفة ورق التواليت، وبدأت أكتب طول الليل بهذا القلم فوق هذا الورق، وكانت الكتابة وحدها، هى التى هزمت جبروت الزمان وقبح المكان، ومنحتنى السعادة والحرية وأنا وراء القضبان.