الكتابة عن أحداث التحرش في مدينة كولونيا الألمانية في رأس السنة 2016 بمثابة المشي على الأشواك لأن كل تعقيب عليها يمكن أن يجلب انتقادات عديدة من فئات مختلفة من القراء. رغم ذلك تكتب إليزابيت ليمان عن الحادث. ربما يجدر بي التخلي عن فكرة كتابة نص عن هذا الموضوع فهو لن يجلب لي إلا المتاعب، إذ أكاد أرى الانتقادات قادمة من كافة الجهات. كتابة نص جديد عن « اعتداء غوغاء من شمال أفريقيا على نساء ألمانيات ليلة الاحتفال بالعام الجديد »، بمثابة المشي على الأشواك كما أن كل شيء عن هذا الموضوع قد قيل تقريبا. وبالمناسبة فأنا مرتبطة برجل « ينحدر من شمال أفريقيا ». وكعادة معظم المرتبطين ممن هم في مثل عمرنا، فقد تعرفنا على بعضنا (لا ليس بالقرب من محطة القطارات) بل في حفلة. كان هذا في وقت راج فيه تعبير « شركاؤنا في الوطن من أصول مهاجرة » في ألمانيا وكان من التعبيرات « الأنيقة ». الخلاصة أني ارتبطت ب »الشريك في الوطن ». ومنذ هذا الوقت مرت على ألمانيا العديد من المناقشات وشهدت علاقتنا العديد من عهود الكياسة السياسية. أشعر بسعادة بالغة في استخدام بعض الألقاب في وصف شريك حياتي. فعندما أرغب في إغضابه أصفه بالعربي، رغم أنه يميل للدقة في وصف نفسه بالأمازيغي. ومن ناحية الدقة يمكن القول إن شريك حياتي ألماني. وهو بالفعل ألماني لأنه يحمل جواز سفر جمهورية ألمانيا الاتحادية. لكن كما علمت من موظف إداري في البلدية من فترة ليست بالطويلة، فإن صديقي هو « ألماني بجواز السفر ». لم يكن التوصيف معروفا بالنسبة لي وبحثت عنه أولا على الانترنت لأدرك سوء هذا الوصف، لكن لنترك هذا الأمر الآن. وإذا نظرنا إلى طريقة تفكيره، فإن شريك حياتي ألماني للغاية، فهو محترف في الدقة كما تكشف تفرقته بين مصطلحي العربي والأمازيغي، وبالتالي فهو متوافق في طريقة تفكيره تماما مع خط الدولة الألمانية. فمع كل نقاش جديد حول الهجرة والمواطنين غير الألمان، يخرج الساسة والإعلام وأصدقاء اللياقة السياسية بتعريفات جديدة يزعمون أنها أكثر دقة، للمجموعات المختلفة داخل المجتمع وهذا ما يطلق عليه التعميم الدقيق. ومنذ أحداث ليلة الاحتفال بالعام الجديد في مدينة كولونيا، تحولت من مصطلح « عربي » الذي أغضب به شريك حياتي، إلى مصطلح « مواطن منحدر من شمال أفريقيا ». فكلمة عربي عامة للغاية تشتمل أيضا على السوريين، اللاجئين الذين لم يكونوا هناك على الإطلاق. بالإضافة إلى ذلك فهم ضحايا ولا نقاش في ذلك. أما احتمالية وجود أفراد بينهم لا يتسمون باللطف الشديد، فهي مسألة غير مطروحة على الإطلاق. سيثير هذا المقطع غضب « الطيبين »، أعلم ذلك ولكن يمكنني التعايش معه فأنا أيضا واحدة منهم. النظرات والتصفيرات والعبارات التي تخدش الحياء، واللمس، جزء من حياة المرأة في القاهرة. وأظهرت دراسة للأمم المتحدة العام الماضي أن أكثر من 99 بالمئة من المصريات تعرضن مرة واحدة للتحرش الجنسي، بداية من عبارات المعاكسة التي يزعم البعض أنها غير ضارة، وحتى الاغتصاب. شريك حياتي إذن هو « مواطن منحدر من شمال أفريقيا » فهو مغربي المولد، بالصدفة على فكرة. لا أعلم إن كان رد فعلي على محاولاته التقرب مني في أول لقاء، سيختلف إذ كانت أحداث كولونيا وقعت قبل اللقاء أم لا. لكن ما أعرفه هو أنه لم يتحرش بي في لقائنا الأول وإنما تحدث معي بطريقة « متحضرة » تماما ». وفيما يتعلق بهذه النقطة تحديدا، أعتقد أني سأواجه النقد من النساء ضحايا أحداث التحرش في كولونيا، بدعوى أني أخفف من حدة ما تعرضن له، أكاد أرى تعليقاتهن حول كوني أقلل من خطورة العنف وأجعله نسبيا أو أني أهين الضحايا وربما كنت سأفكر بطريقة مختلفة إن كنت في مكان إحداهن. لكني هنا أطلب منك أيها الناقد العزيز، مواصلة قراءة النص حتى النهاية. التحرش الجنسي هو شيء تعرضتُ له بشكل يومي لمدة عامين، فقد عدنا إلى برلين قبل عدة أسابيع فقط وقبلها كنا في مصر، معقل التحرش الجنسي، وكلمة « تحرش » كانت أول كلمة عربية تعلمتها في القاهرة. والآن دعوني أسرد لكم تفاصيل أحد أيامي في القاهرة: أسير على أحد جسور النيل العديدة في يوم مشمس من شهر أبريل مرتدية سروالا طويلا من القماش وقميصا بنصف كُم غير ملفت للنظر وحذاء بدون كعب وعلى وجهي ماكياج خفيف. وبالرغم من كل هذا شعرت بنظرات الرجال تلتصق بجسدي وشعرت بأني عارية. خلاصة هذه التجربة وبعد 10 دقائق: ثمانية اعترفات بالحب وأربع مرات مداعبة بلقب « بوسي » ويد غريبة على مؤخرتي. نعم إنه أمر مثير للاشمئزاز ومهين، أحقر سلاح يمكن استخدامه ضد المرأة لاسيما وإن لم يكن للمرأة إمكانية مواجهته بالرغم من كونها واثقة من نفسها ومتحررة. في مصر كنت أتمنى ترك صدري (ثدْيَيَّ) في المنزل قبل الخروج لأحظى بقليل من الهدوء، فالتحرش هناك رياضة شعبية، كدت أكسر رأسي وأنا أحاول يوميا على مدار عامين تفسير أسبابها. المتحرش والفارس حاولت في البداية تفسير الأمر بالإسلام وبإمكانية أن يكون السبب هو شعور الرجل المسلم بالفوقية على المرأة ونظرته لها كملك له، لكن ما تبرير وجود مسيحيين من بين المتحرشين بي على الكوبري؟ علاوة على ذلك فقد كنت ألتقي يوميا برجال مسلمين لا يمكن وضعهم في هذا القالب الفكري، إذ أن تصرفات أبناء جنسهم كانت تثير لديهم نفس الغضب وكان يعتريهم الخجل العميق من الأحداث التي تتكرر منذ الثورة في الاحتفاليات الكبرى والتي تتشابه مع سيناريو ما حدث في كولونيا، إذ تلتف مجموعة من الرجال حول سيدة ويعتدون عليها ويتحرشون بها أو يغتصبونها. رأيت هذا الأمر بعيني في ميدان التحرير خلال الاحتفال بتنصيب عبد الفتاح السيسي رئيسا لمصر. ينتشر أحد فيديوهات الواقعة على شبكة الانترنت وهو ما كان كفيلا بقراري تجنب أي احتفالية كبرى في مصر بعد ذلك. الآن سأواجه نقدا جديدا لأني أكدت على كافة الأحكام المسبقة المنتشرة في ألمانيا عن العالم العربي. وربما يقول أحدهم الآن: « أرأيتم، من الواضح أن جميع العرب، عفوا أقصد المنحدرين من شمال أفريقيا، يتصرفون على هذا النحو ». وقفات للتنديد بالتحرش الجنسي توضح أن التحرش لا علاقة له بملابس المرأة. وترى إليزابيت ليمان من خلال تجاربها أن « التحرش لا علاقة له أيضا بالموطن الأصلي للمتحرش ». لهذا إليكم المفاجأة الكبرى: في القليل من دول العالم – والتحرش الجنسي بالنساء موجود في كل مكان، أكرر في كل مكان- تتم مواجهة التحرش بهذا الشكل المكثف كما هو الحال في مصر، فعالم الرجال هناك منقسم بين المتحرش والفارس وكلاهما متطرف في تصرفاته، فالطرف الأول يتمتع بكسر نفس النساء في حين يقوم الطرف الثاني بتنظيم دورات للدفاع عن النفس وإعداد خطوط تليفونية ساخنة للضحايا وأحيانا تشكيل مجموعات لحماية النساء. خلال إحدى التجمعات الانتخابية تولى عشرات الرجال مهمة حمايتي أنا ومجموعة من الصحفيات الغربيات وبنوا حولنا دائرة بشكل يسمح بوجود مترين مسافة بيني وبين مجموعات المتحرشين. لم أطلب من أحد القيام بهذا الأمر، لكنها ببساطة الطريقة التي يسير بها المجتمع. غريب في غرفتي مصر بالتأكيد تمثل نموذجا متطرفا في هذا السياق، لكني عايشت في دول أخرى هذه المعادلة التي ترى أن المرأة عندما تتحدث مع رجل فهي ترغب في علاقة جنسية معه. قبل مغامرتي في القاهرة عشت وعملت لبعض الوقت في روسيا وتنقلت بين المدن هناك وحدي. وبالرغم من إتقاني للغة الروسية فقد احتجت لفترة طويلة لفك الشفرات الاجتماعية هناك. كامرأة غربية اجتماعية، فأنا معتادة على التواصل مع الرجال الغرباء دون أي نية أخرى. وعندما كنت أرد كعادتي بأدب على رجل يحدثني في روسيا، فقد كان هذا بالنسبة له بمثابة إشارة الانطلاق للتفكير في أني أريد إقامة علاقة جنسية معه. وعندما يخرج الأمر من نطاق التفكير لنطاق الفعل لأجد أحد من يعيشون خارج نطاق المدن المتحضرة ممن أسكرتهم الفودكا الرخيصة، في غرفتي بالفندق، ماذا كنت أفعل؟ أصرخ وقد ساعدني هذا في معظم الأحيان. ما المستفاد إذن من هذه الأحداث؟ التحرش لا علاقة له بالموطن الأصلي. التحرش صفة ذكورية. الآن أغضبت مجموعة أخرى من القراء. ألم أقل لكم أنه كان أجدر بي ألاّ أكتب هذا النص؟