لم يكن من السهل إقناع المحامي جاك فرجس بإجراء حوار، وهذا واحد من طباعه، محام غامض يفضل، لا سيما بعد أن أبلغ من العمر 84 سنة، الانزواء خلف الأضواء في الأونة الأخيرة. وأنا اقتفي أثر عنوان مكتبه في باريس كما وصفه لي، لأجري معه حوارا باسم أسبوعية "الأيام" حينئذ، كانت مشاهد صوره وهو يجرح في هيئات الدفاع في فرنسا أو في دول أخرى وهو يدافع عن"خيوسامبان" مثلا كواحد ضمن ثلاثة من قادة الخمير الحمر المتابعين بتهمة ارتكاب جرائم، أو وهو يدافع عن البستاني عمر الرداد، مشاهد متناقضة تتراقص في ذهني. يكفي أن تضع اسم جاك فرجس على موقع" اليوتوب"، حتى يفاجئك بصور ومشاهد يبدو في أغلبها صارما قوي الشخصية، وهو يترجل في بعضها أمام هيئات المحاكم في قضايا سياسية ليرفع يده وهو يصرخ في وجه القضاة وليكيل الاتهامات إلى النيابة العامة.. وهكذا وجدته شخصيا وأنا أحاوره منذ سنوات باسم أسبوعية "الأيام". قلما يفارق السيجار الكوبي فمه. أزال" جاكيت" حريريا يحمل توقيع أكبر الماركات العالمية، وجلس خلف مكتبه الذي يعتبر بدون منازع متحفا في بناية تاريخية تضم أغلى أنياب العاج ومجسمات تحيل على ثقافته، أما طاولات الشطرنج بمختلف الألوان والأنواع فقد أفرد لها مكتبا خاصا يمر عبره ضيوفه قبل الانتقال إلى مكتبته. محام فرنسي من أصل فيتنامي. هكذا قدم لي ظروف ولادته:" أنا ولدت في " التايلاند" سنة 1925. يعود أصل والدي إلى جزيرة" لارينيون" التي كانت مستعمرة فرنسية شأنها شأن " المارتينيك" والكودلوب، ولكن " لارينيون" " كانت في المحيط الهندي. والدي كان قنصلا فرنسيا في التايلاند، التي تسمى مملكة" سياب". التقى والدي حينها بأمي التي كانت معلمة فيتنامية فأحبها وتزوجها وأنجب منها والدين توأمين، ولما كان ممنوعا على ممثل فرنسي أن يتزوج بامرأة من الأهالي، فقد طلبوا منه التخلي عن منصبه الديبلوماسي. وبما أن والدي بدأ مساره كطبيب، فقد انتقل رفقة والدتي إلى لاووس، ثم انتقل بعدها إلى جزيرة " لارينيون" كطبيب".. اندفع فرجس بإيمان مطلق للدفاع عن الثورة الجزائرية والسجناء السياسيين الذين زجت بهم قوات الاحتلال الفرنسية في السجون. دافع عن الجزائرية المقاومة للاحتلال الفرنسي حينئذ جميلة بوحيرد، ولم يتزوج قضية تحرر الجزائر من المستعمر الفرنسي فحسب، فمعها تزوج المرأة الرمز جميلة بوحيرد دائما. بعد تحرير الجزائر انتقل فرجس إلى الصف الفلسطيني، حيث دافع عمن تم إلقاء القبض عليهم من الفدائيين الفلسطينيين الذين كانوا، حينها، يقومون بعمليات مسلحة ضد إسرائيل في الخارج (عملية أولمبياد ميونيخ)، وهكذا أصبح صديقا مقربا من جورج حبش ووديع حداد. وفجأة اختفى دون دوافع المحامي فرجس ما بين 1970 و 1978، وقد أسال غيابه الكثير من المداد. اعتقد في البداية أنه قتل، وأنه قد يكون ضحية لأجهزة المخابرات الفرنسية، ومعظم الذين يعرفونه اعتقدوا أنه انتقل إلى كمبوديا في عهد نظام بول بوت. وحتى بعد ظهوره، ظل لسؤال معلقا، بعد أجوبة لم تكن لتشفي غليل الرأي العام، الذي يتابع في فرنسا وخارجها مسار واحد من المحامين الأكثر إثارة للجدل في الساحة القضائية، والذي لا تزال العديد من الألغاز والكثير من ستائر الدخان تلف مساره المهني والسياسي على حد سواء، أما المناطق الرمادية في محطاته المهنية فلا تعد ولا تحصى. ففي مساره، ظلت الكثير من الأسئلة تلف قضايا دافع عنها، كما لو كان عدو الشعب رقم واحد: يدافع عن المتهمين في قضايا إرهابية مثل كارلوس المتهم بارتكاب جرائم القتل المتعددة والتفجيرات، وبأسر رهائن من عيار 11 من وزراء ال " أوبك سنة 1975، وعلاقاته متشعبة مع بعض رؤساء الدول الأفارقة الذين يتهمون بالديكتاتورية. ففي نفس الوقت الذي يدافع فيه عن الفلسطينيين والجزائريين المقاومين للإستعمار الفرنسي وعمر الرداد، البستاني المغربي ضحية خطأ قضائي، يدافع عن النازي كلاوس باربي... ظل صديقا لرؤساء العديد من البلدان والزعماء السياسيين في العديد من الدول القوية، وذاكرته متقدة. ألف عدة كتب تظل مرجعا أساسيا في العدالة، من بينها " العدالة لعبة" و" جرائم الدولة" و" الأخطاء القضائية" و"عمر قتلني"... وكأنه شخصان في واحد، قد يطلب الموساد رأسه، لأنه دافع عن الفلسطينيين، وأسر ضحايا منظمة الخمير الحمر الذين يتجاوزون المليون ونصف المليون شخص، يطلبون رأسه في قرارة أنفسهم، لأنه دافع عن خيوسامبان، الرئيس السابق للخمير الحمر الحزب السياسي الحاكم في كمبوديا. باختصار، لازلت أتذكر، أنني، كنت يومها على موعد مع محام، لا يمكن إلا أن يترك في نفس كل من يقرأ مساره المتناقض انطباعا غريبا. لاعجب أن يثيرالفزع والتمرد في ان واحد، وعدم الفهم في أحايين أخرى، ولكن للرجل سحر الشخصية القوية. يفرض الاحترام والإعجاب في نفس الوقت. هل هو التوازن بين الخير والشر وذلك الخليط بين الشفافية والتعتيم الذي يجعله واحد من أكثر الشخصيات القوية؟ لن انس جلوسي معه الذي امتد لأربعة ساعات، ولازلت أحتفظ بمنديل أهداني اياه، قبل أن أغادر مكتبه... عن لقائه مع الملك الراحل الحسن الثاني الذي تم في حضرة ولي عهد سيدي محمد، وعن المرحلة التي جمعته بالدكتور الخطيب كمستشار لدى وزير الشؤون الإفريقية، ويقفز عن أحداث أخرى، ألم تعلمه السرية التي عاشها في السبعينيات وترتيب الأرض الخصبة لحرب العصابات أداب الكتمان؟ وهكذا يروي المحامي جاك فرجس كيف اشتغل سنة بديوان عبد الكريم الخطيب، وزير الشؤون الإفريقية سنة 1961، وكيف حصل على جواز سفر مغربي مزور، وكان حلقة وصل بين الحسن الثاني عبر الدكتور الخطيب وبين زعماء أفارقة لدعم حركات التحرر الإفريقية بالمال وبالتدريب العسكري، كما يحكي كيف دعم المغرب نيلسون مانديلا بالمال وبالتدريب على حرب العصابات بوجدة. اشتغلت لمدة اثنا عشر شهرا سنة 1961 مستشارا لدى وزير الشؤون الإفريقية، فما الذي جاء بك إلى المغرب وأنت التايلاندي المولد، الفتنامي الأم والفرنسي الجنسية والمحامي المتشابك مساره والمعقدة منعرجاته وملفاته؟
أحتفظ بذكريات استثنائية عن المغرب وبانطباع أكثر من جيد عن البلد احتضنني في فترة كنت فيها غير مرغوب فيه في فرنسا.
وصلت إلى المغرب في يناير 61 أو دجنبر 60، لم أعد أذكر، وعدت إلى الجزائر مباشرة بعد حصولها على الاستقلال سنة 62 عبر وجدة باستعمال السيارة .
أما سبب انتقالي إلى المغرب ومكوثي فيه لمدة سنة، فيعود إلى فترة توقيفي عن العمل كمحام بقرار من المحكمة العسكرية في فرنسا، التي منعتني من مزاولة المهنة بعد محاكمة مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية الذين كنت أدافع عنهم، لأنني توبعت بتهمة الإساءة للمحكمة.
حينئذ جاءت فكرة اشتغالي في المغرب كأي هدية من السماء. إذ تلقيت دعوة للانتقال إلى المغرب للعمل كمستشار لدى وزير الشؤون الإفريقية الدكتور عبد الكريم الخطيب حينئذ، الذي كان ينتمي اذا لم تخني الذاكرة الى حزب الحركة، لأن ما أحاول أن أسترجعه يعود إلى خمسين سنة خلت.
* فعلا كان ينتمي حينئذ كوزير للشؤون الإفريقية إلى حزب الحركة الشعبية قبل أن يؤسس في مرحلة متقدمة من مساره السياسي حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي. طيب، ماذا كان طبيعة عملكم في الوزارة حينئذ؟
- كان نشاط وزارة الشؤون الإفريقية ينبني على تقديم الدعم والمساندة المستمرين للمنظمات التحررية في إفريقيا، التي كانت تحمل اسم مجموعة الدارالبيضاء. فالمغرب كان يلعب دورا رياديا على هذا المستوى، بحيث كان ملجأ لا يستغني عنه بالنسبة للحركات التحررية في إفريقيا. نفس الأمر ينطبق على التنظيمات التحررية للمستعمرات البرتغالية أو ما كان يصطلح عليه حينئذ بال" أو. ان. سي. بي"، أي تجمع المنظمات الوطنية للمتعمرات البرتغالية، وأتذكر منها: أنغولا، الموزمبيق، جيني بساوو، كاب فير، سونتومي ...، بحيث كان المغرب يوفر لها مقرات في العاصمة الرباط، بما في ذلك لممثلي الحركات التحررية في الكاميرون والنيجر..
كان دورنا في الوزارة يرتكز بالدرجة الأولى على مساعدة هذه الحركات التحررية.
أولا: المغرب كان يؤمن لها مقرا في الرباط. ثانيا:كنا، ولاحظوا أنني أتحدث باسم المغرب، وبتوجيه من الدكتور الخطيب وبطبيعة الحال بموافقة من الملك الحسن الثاني، قلت كنا نوفر لهذه الحركات التحررية دعما ماليا متواضعا.
ثالثا: كنا نمنحهم وثائق تسهل عليهم التنقل، بما في ذلك جوازات السفر المزورة التي كانت تقدمهم كمغاربة، وتسهل عليهم التحرك دونما مشاكل. رابعا: كنا نقفل عيوننا ونغض الطرف في بعض الأحيان عن الطرود التي تصل إلى المغرب باسم المنظمات التحررية من دول الصين، أو روسيا وبولونيا كذلك، والتي لم تكن محملة إلا بالأسلحة.
خامسا: بالإضافة إلى ما سلف، كنا ننقل مجموعة من مناضلي المنظمات التحررية إلى وجدة للقاء ببعض من مكونات الجيش الجزائري، وذلك من أجل التدرب على حرب العصابات.
ولهذه الغاية، كنت على اتصال بعناصر من الجيش الجزائري، وبالضبط كنت على اتصال بشخص لم يكن اسمه الحقيقي الا بوتفليقة.
* هل تقصد أن الرئيس الجزائري الحالي هو الذي كان صلة الوصل بينك كممثل للمغرب وبينه لمساعدة المنظمات التحررية الإيفريقية؟
- فعلا، أنا التقيت بوتفليقة في وجدة حينما كنت مكلفا في الوزارة بتأمين وصول الثوريين التحررين الإفريقيين إلى وجدة من أجل التدرب على حرب العصابات، والشخص الذي كنت على اتصال به من أجل هذا العمل لم يكن إلا عبد العزيز بوتفليقة، أما دوره كجزائري فكان يعتمد على تسهيل التحاق ممثلي المنظمات التحررية القادمين من إفريقيا للقيام بتدريبات عسكرية بجيش الحدود المغربية الجزائرية في المغرب، وتحديدا بالمغرب الشرقي.
وهناك عدة صور لم أعد أملكها توثق للعمل الذي كنت أقوم به في وزارة الشؤون الإفريقية، ولكنها توجد في الجزائر، ومن بينها الصور التي تجمع بيني وبين نيلسون مانديلا مثلا وبوتفليقة في وجدة.
وهذا كان أساس تحركي وتواجدي في الوزارة، وفي سنة 1962 حينما حصلت الجزائر على استقلالها غادرت مباشرة المغرب.
*لماذا؟
- من أجل الالتحاق بالجزائر. أنا كنت ممنوعا من مزاولة مهنتي في باريس بتهمة الدفاع عن الجزائريين، ولما حصلت الجزائر على استقلالها كان علي أن أعود إلى الجزائر.
* في أية ظروف اشتغلت عضوا في ديوان وزير الشؤون الإفريقية؟ بمعنى من سهل عليك العمل في المغرب؟
- كانت لجبهة التحرير الوطني الجزائرية علاقة جيدة بالمغرب، وأغلب الظن أن الجبهة هي التي تدخلت لإقناع المسؤولين المغاربة لاختياري كمستشار لدى وزير الشؤون الإفريقية، وهو التدخل الذي كلل بالنجاح.
* في أية ظروف التقيت الخطيب إذن، بما أن نصفه جزائري والنصف الثاني مغربي، على اعتبار أن أباه عمر جزائري وأمه مريم الكباص مغربية؟
- تعرفت على الخطيب في باريس سنة1960، أي قبل أن أتعرض للتوقيف من طرف المحكمة العسكرية الفرنسية، وذلك خلال تنقلاته المتكررة إلى العاصمة الفرنسية، بحكم أنه كان مهتما بالمنتمين إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية الذين كنت أدافع عنهم، وتكثفت اللقاءات بيننا لا سيما في الفترة التي كانت قد بدأت فيها المفاوضات بين جبهة التحرير الوطني الجزائرية وبين الخطيب كي ألجأ إلى المغرب هروبا من حكم قاس صدر ضدي.
تم ذلك في فترة كانت فيها العلاقة بين جبهة التحرير الجزائرية والحسن الثاني وقبله محمد الخامس، أكثر من جيدة.
فكما تعلمون محمد الخامس كان رجلا محترما من طرف المغاربة والجزائريين والمغاربيين عموما، كما أنه كان يعتبر شعبيا من طرف المغاربة والمغاربيين، وقد ساعد كثيرا جبهة التحرير الجزائرية في حياته، وعلى نفس النهج استمر ولي عهده الحسن الثاني.