يبدو أن سكان «فكيك» لم يعدوا يطيقون أن تظل مدينتهم ضمن «المغرب غير النافع» رغم مرور أكثر من 55 سنة على استقلال البلاد. لذلك خرجوا في مسيرات احتجاجية قل ما عرفت المدينة مثلها للاحتجاج على أوضاعهم المزرية والانتفاض على ميل السلطات المركزية إلى جعل هذه المدينة المتاخمة للحدود الجزائرية «مقبرة» للمسؤولين المغضوب عليهم. تعيش مدينة فكيك على وقع موجة من الاحتجاجات التي لم تشهدها المدينة منذ سنوات عديدة، حيث خرج الآلاف ليجوبوا أهم شوارع المدينة، تعبيرا عن عدم رضاهم بما آلت إليه الأوضاع بالمدينة المتاخمة للحدود، من جهة الجنوب الشرقي. وقد بدأت الاحتجاجات، منذ أسبوع تقريبا، بعدد متواضع من المحتجين قبل أن تتحول في الأيام القليلة الماضية إلى مسيرات شعبية ضخمة، شارك فيها الرجال والشباب. وكانن ملفتة المشاركة القوية لنساء المدينة، رغم طبيعتها المحافظة. من هنا البداية الوضع انفجر بالمدينة بعد إقدام أصحاب شاحنات نقل مواد البناء على تنظيم مسيرة احتجاجية انطلقت من باشوية المدينة، في اتجاه أهم الشوارع، قبل أن يستقر بها المقام بأهم ساحات المدينة، خاصة ساحة 20 غشت. ووفق مصادر محلية فإن المسيرة التي نظمها المعنيون جاءت بشكل عفوي «بعد الحجز على بعض الشاحنات الخاصة بزملائهم»، واتهام واحد منهما بسرقة الرمال، وهي الإجراءات التي كانت، على حد تعبير المصدر نفسه، «مفاجئة وبدون سابق إنذار»، و تحولت المسيرة بعد ذلك إلى وقفات متفرعة أمام مجموعة من المصالح والإدارات العامة. وليس حجز الشاحنات وحده من أخرج أولئك للاحتجاج، فبالإضافة إلى ذلك طولبوا بأداء مبالغ مالية مهمة كغرامات، كما طولبوا باستخراج التراخيص اللازمة لممارسة النشاط الذي مارسوه لسنوات عديدة، وفق الطريقة التي تعايشوا بها وبعضهم ورث هذه المهنة أبا عن جد، وهو ما رأوا فيه مسا بمصدر القوت اليومي. هذا الوضع دفع بأهالي المدينة المنحدرين من القصور السبعة التي تشكل النسيج العمراني لفكيك إلى الانضمام إلى إضراب واحتجاجات أرباب الشاحنات، لتبدأ فصول أخرى من الغضب الشعبي، بالرغم من أن الضغط الذي باشره أرباب الشاحنات مكن من إطلاق « سراح» شاحنتين كانتا محتجزتين. رفض الحوار مع السلطة بعد انضمام مجموعة كبيرة من سكان المدينة لاحتجاجات أرباب الشاحنات، توجهوا في مسيرة إلى باشوية المدينة في اليوم نفسه. وبدون أي تأطير من أي جهة سياسية أو نقابية، «حج المواطنون الذين كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة لإعلان غضبهم»، يقول سعيد، أحد المحتجين في اتصال هاتفي، قبل أن يضيف بأن «تضامن الساكنة مع المضربين كان عن طريق إغلاق المحلات التجارية والتوجه معهم في مسيرة الغضب». وبالرغم من أن السلطة المحلية طالبت بلقاء المحتجين وإيجاد حل للمشاكل التي خرجوا بسببها إلى الشارع، إلا أن المحتجين رفضوا ذلك وآثروا البقاء للاحتجاج في الشارع وإبلاغ صوتهم حول ما آلت إليه أوضاع المدينة بشكل عام، وعلى جميع المستويات. وفي الوقت الذي رفض فيه المحتجون لقاء السلطة المحلية عقد ممثلوهم لقاء مع النائب البرلماني عن المدينة «سعيد بليلي»، يومين قبل المسيرة التي وصفت بالتاريخية، والتي نظمت عصر الأحد المنصرم، واستمر اللقاء ساعات، من الصباح إلى حدود عصر الجمعة، وطرحت فيه مجمل المشاكل التي تعاني منها «الواحة»، كما تمت خلاله مدارسة إمكانية إيجاد حلول إستعجالية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. دواعي الاحتجاج الحقيقية بالرغم من أن الحركة الاحتجاجية في بدايتها كانت متعددة المطلب وعشوائية في بعض اللحظات، لغياب إطار يوجه حركيتها، إلا أن اللقاء الذي جمع بين المحتجين والبرلماني بليلي كشف المشاكل التي أخرجت الفكيكيين إلى الشارع وأظهر بأن احتجاجات أصحاب الشاحنات، وإضرابهم الذي دام 48 ساعة (الاثنين والثلاثاء)، لم يكن سوى الشعرة التي قسمت ظهر البعير! مصدر حضر اللقاء الذي جمع البرلماني والساكنة، والذي استمر لأزيد من 5 ساعات، الجمعة المنصرم قبل مسيرة التشييع بيومين، قال بأن الساكنة استعرضت بدقة مجمل المشاكل التي تتخبط فيها على جميع المستويات، ففي الجانب الصحي، وهو الجانب الذي تعاني منه الساكنة أكثر، كشف الغاضبون عن غياب الخدمات والتجهيزات والأطر الصحية المتخصصة، وإن وجدت هذه الأطر في غالب الأحيان لا تحضر إلى المراكز الصحية إلا لماما، قبل أن يضيف المصدر ذاته أن المشاكل الفلاحية المرتبطة أساسا بمخطط المغرب الأخضر، كان لها نصيبها من الانتقاد اللاذع، لكون «الواحة» لم تستفد من أي دعم قدم في هذا الإطار، مشيرين إلى تعقيدات الإجراءات المسطرية والإدارية وشروط الاستفادة. في السياق ذاته استحضر المحتجون من الفلاحين المشاكل التي يعانون منها بمنطقة «العرجة» المتاخمة للحدود المغربية الجزائرية، وهي المشاكل التي كانت الساكنة تنبه إليها دائما، في سياق الوضعية التي يعيشها الفلاحون على الحدود المغربية الجزائرية، فهم يعتبرون أن «ردود الدولة المغربية على الاستفزازات الجزائرية محتشمة جدا، إن لم تكن غائبة، بالرغم من خطورة الأفعال التي يقترفها حرس الحدود الجزائري ضد أبناء المنطقة، سواء بالاعتقالات المتكررة أثناء التنقيب عن فاكهة الترفاس، أو اعتقال قطعان الماشية، التي يتم في بعض الأحيان اقتيادها من الأراضي المغربية». مشاكل التشغيل والشعارات الخاصة بإدماج الشباب في التوظيف بالمدينة، وإيجاد حلول لمعضلة البطالة كانت حاضرة بقوة، وهي من المطالب الرئيسية التي ترفعها الساكنة. بالموازاة مع ذلك طالب المحتجون بضرورة الرفع من نسب بطائق الإنعاش الوطني، الملاذ الذي يلجأ إليه العديد من الشباب الذين فاتهم قطار الحصول على وظيفة مريحة. ولأن الساكنة المحتجة رأت بأن الفرصة مواتية لطرح جميع المطالب، كان لابد من استحضار المعاناة التي يتلقونها في سبيل البحث واستخراج بعض الوثائق الإدارية العادية والضرورية، في الوقت نفسه فهم يضطرون في الغالب إلى الانتقال لأزيد من 100 كلم إلى مدينة بوعرفة، مركز العمالة، لإنجاز هذه الوثائق مع كل ما تتطلبه هذه العملية من ضياع للوقت والمال. « مدينة فكيك، صح أن يقال عنها منكوبة، والإقليم برمته في الحقيقة منكوب، وهذا يتضح لأي زائر لهذا الإقليم، قادم من وجدة مثلا، فهو ما إن يغادر إقليمجرادة، عبر عين بني مطر، حتى يتقطع إرسال المذياع، وتخفت شبكة الهاتف، شيئا فشيئا، إلى أن تختفي»، يقول إبراهيم أحد سكان قصر «الحمام الفوقاني» تعليقا على وضعية الإقليم، قبل أن يضيف في تصريحه «إن المدينة التي يضرب بها المثل، بالقول «أنا فوق فكيك»، للتعبير عن الوضعية المريحة، سواء المادية أو غيرها، لا تنعم بشيء من ذلك، «فهذا غير صحيح ولا يعكس الصورة الحقيقة للمدينة التي عاشت، وما تزال تعيش على وقع التهميش والإقصاء». إبراهيم لا يلوم الدولة وحدها في الوضع المتردي الذي تعيشه فكيك، «فإن كانت السلطة همشت المدينةوالإقليم برمته لسنوات عديدة فإن جزءا من أبنائها كرسوا هذا التهميش، فأثرياؤها الكثر المنتشرين في المغرب طولا وعرضا، لا يولون وجوههم شطر هذه المدينة، وكل من غادرها لا يزورها إلا في مناسبة عيد الأضحى، وليلة المولد النبوي لإحياء هاتين المناسبتين الدينيتين، وأكثر من ذلك لا تتذوق المدينة من أموال أثريائها شيئا، رغم الحاجة، فقد أنجزوا مشاريع ضخمة في البيضاء والمراكز الصناعية الأخرى، فيما فكيك تجر خيبة الأمل». صنف آخر من أبناء المدينة، يرى المصدر نفسه، أنهم كرسوا الوضعية وساهموا في تأزمها والمقصود هنا هم الأعيان ووجهاء القصور الذين لا يتوانون، على حد تعبير المصدر سالف الذكر، « في التقرب من السلطة بأي ثمن، وتقديم الهدايا والعطايا للمسؤولين، الذين يحلون بالمدن مساهمين في تكريس سياسة العام زين». مسيرة التشييع المسيرة التي خرجت الأحد المنصرم، والتي توّجت أسبوعا من الاحتجاج، كانت الأكبر على الإطلاق منذ انطلاق هذه الحركة الاحتجاجية. ووفق مصدر من المشاركين فإن العدد قارب 4000 شخص نزلوا إلى الشارع، بعد صلاة العصر للتعبير عن استمرار احتجاجاتهم، غير أن ما ميز هذه المسيرة عن سابقاتها حمل المحتجين نعش المدينة إذانا بتشييعها إلى مثواها الأخير، وهو ما علق عليه مصدرنا «فكيك بعد سنوات التهميش الطوال لم يبق أمام ساكنتها سوى إعلان التشييع وإعلان الوفاة والدفن»، كما أن الوقفة عرفت رفع شعارات قوية في حق السلطة المحلية، خاصة ضد باشا المدينة. في السياق ذاته، عبر بعض المشاركين في هذه المسيرة من استياءه من أن تتحول المدينة إلى «مقبرة للمسؤولين المغضوب عليهم»، على حد تعبيرهم، قبل أن يضيفوا «فكيك مدينة مغربية ويجب أن تحظى بالاهتمام الذي تحظى به باقي المدن المغربية، على الأقل الاهتمام الذي تحظى به الجهة الشرقية». تعزيزات أمينة شهدت المدينة، خلال الأيام الأولى لبداية الاحتجاجات، تعزيزات أمنية من قوات التدخل السريع، ووفق مصادر مطلعة فإن التعزيزات الأمنية الحالية «عادية»، تحسبا لأي انفلات قد يقع، قبل أن تؤكد المصادر نفسها أن الداخلية «أخذت العبرة من الأحداث التي عرفتها مدينة بوعرفة في 2008، وهو السيناريو الذي تخشى تكراره خاصة أمام غياب طرف سياسي أو نقابي يتبنى هذه الاحتجاجات باعتبارها احتجاجات عفوية، أهدافها اجتماعية صرفة، خاصة وأن القائمين بها واعون بضرورة الحفاظ على سلمية الحركة الاحتجاجية الحالية». وفي السياق ذاته ينتظر أن تحل لجنة مركزية بالمدينة تمثل مجموعة من القطاعات للاطلاع على المشاكل التي يعاني منها السكان، واتخاذ القرارات الاستعجالية، في انتظار إيجاد حل لباقي المشاكل التي تحتاج إلى وقت.