لو حاولنا نقل المَشَاهد والتعبير عن الأحداث التي تجري ببلدة آيث بوعياش بشكل تصويري لغرقنا في التفاصيل الدقيقة واستغرق الأمر حتما كما هائلا من الزمن لأن الأمر راجع بالأساس إلى مدى تسارع الأحداث وإلغاء اللاحق منها السابق في شكل انتقال الأحداث بسرعة هائلة وتطورها من الكم إلى الكيف. لذا فإننا سننحو منحى مغايرا يسير في اتجاه كشف الغائب، بل المتغيب عن قصد في كل ما كتب من تعاليق وروي عن أحداث الاحتجاجات الشعبية بهذه البلدة التي لا تختلف ولا تتميز في شيء عن باقي بلدات المغرب المقهور، سوى بإصرار شبابها الثائر وعزمهم الذي لا يلين من أجل العبور نحو وطن الكرامة والمساواة والعدالة الإجتماعية، متخذين من الحكمة البلشفية القائلة أن المطرقة تكسر الزجاج لكنها تصلب الفولاذ، نهجا حقيقيا في الصمود والتصدي والتحدي. لذا فإننا لن نسرد المعطيات بشكل كرونولوجي، ولن نتحدث بإسهاب عن جميع المحطات النضالية التي خاضها أبناء الشعب الكادح بهذه البلدة من الريف المغربي،لأن ذلك متروك في نظرنا لهواة كتابة التقارير وحشو الفقرات الإخبارية وأعمدة الصحف بمواد دسمة قصد الإثارة والتميز من أجل كسب الربح المادي، متناسين بشكل متعمد ومقصود أنهم لا يقومون في أحسن الأحوال سوى بتلويث أيديهم وتسميم أذهان المتلقين عبر تحوير الوقائع وإلباسها شروحات لا تتصل بالحقائق الفعلية بأي واصل. فمن أجل فهم ما يجري بآيث بوعياش والتمكن في نهاية المطاف من استجلاء الحقائق لا مفر من استحضار العناصر التالية : أولا : ليس بمقدور أحد القفز على المعطى الموضوعي المتمثل في أن دينامية الاحتجاجات الشعبية يتبوأ فيها الصدارة معطلوا البلدة الذين استطاعوا خط طريق النضال وزرع ثقافة الإحتجاج في أوساط الجماهير، ومع توالي الأيام واستنفاذ الأشكال البالية دورها كان من الضروري والطبيعي جدا الانتقال إلى مستويات عليا فأنتجت أشكالا نضالية راقية استجابت لها جميع فئات الشعب، وذلك حين تم إدماج مطلب التشغيل مع باقي المطالب التي تشكل أولوية لساكنة البلدة والقرى المجاورة، الشيء الذي سيبلور ما سمي باللجنة المركزية لمتابعة الشأن المحلي والمطالبة بالتنمية وتوفير الأسس الكريمة للعيش، حيث ستدخل هذه اللجنة في سلسلة أشكال نضالية تصعيدية بسبب غياب نية حقيقية من لدن “مسؤولي المنطقة” للتعاطي الجاد والمسؤول مع مطالب الجماهير الشعبية. ثانيا : لقد تزامنت معطيات العنصر الأول مع معطى فريد استجد بنفس البلدة يتمثل في التبني المبدئي واللامشروط من طرف مجموعة من الشباب المعطل والمثقف للمطلب العادل المتعلق بتوفير السكن المجاني للأسرة المشردة، والتي نظر إليها في حينها الكثير على أنها مغالاة من طرف هذا الشباب الذي لم يستطع بعد التأقلم مع محيط الشارع وأنه غير قادر على التخلص من رواسب التفكير الاندفاعي الذي يميز الطلبة داخل أسوار الساحات الجامعية –وهو موقف سلبي من الشباب الثائر على الوضع لا يتسم بأدنى شروط العلمية وقابل للنسف بمجرد الإنتهاء من قرائته- إذ يتساءلون بغباء وسذاجتين مطلقين : هل نحن في دولة بيترولية لنوفر لكل مواطن منزلا للسكن ؟؟ إلا أن الجواب لم يأت دفعة واحدة، بل بشكل متدرج استطاع هؤلاء الشباب الصمود في وجه جميع المحاولات التيئيسية وحققوا مكسب إسكان المرأة المشردة وإجراء عملية طبية لإبنها مع نجاحهم في كشف النقاب عن التلاعبات التي حدثت في تسليم الشقق المبنية لفائدة المتضررين من زلزال سنة 2004. وإمعانا في حقيقة أن ما لا يتحقق بالنضال يمكن تحقيقه بمواصلة مزيد من النضال تم رفع مطلب ذو شق سياسي يتعلق بالمطالبة برحيل الباشا، وهو ما سينتزعه الشباب لتظل عبارتي “ارحل و Dégage” المكتوبتين وسط الطريق العمومية شاهدة على هذه المرحلة من الصراع المرير مع الاختيارات اللاوطنية واللاشعبية الممارسة اقتصاديا وسياسيا بالريف المغربي. ثالثا : انخراط جميع فئات الجماهير الشعبية في هذه الحركية الواسعة النطاق هو الذي أدى إلى إبداع أشكال نضالية أكثر تقدما استجابة طبيعية لمنطق التطور، حيث كانت تعقد حلقات تقرير جماهيرية تحضرها أسر بكامل عناصرها وليس فقط الأبناء، فيتم تارة قطع الطريق العمومية كشكل من أشكال الاحتجاج، مع ترك ممر ثانوي لعبور المارة نحو الحسيمة أو الخروج منها، لأن الغرض ليس هو بأي حال من الأحوال عزل المنطقة أو الإساءة للعموم –المارة الوافدين من مناطق أخرى بالخصوص- كما يسعى جاهدا تصويره الإعلام الرسمي المكتوب والمسموع والمرئي على السواء وأصحاب الامتيازات والمنتفعين من الوضع على ما هو عليه، وكل من يلوك رواياتهم المبتذلة والتي يٌشَم فيها رائحة النتونة بخصوص نواياهم الحقيقية. وتارة أخرى تدخل البلدة في إضراب عام بغلق المقاهي والدكاكين والمحلات التجارية، وهنا ينتصب السؤال الحقيقي : أي تأثير لهؤلاء الشباب على أصحاب المحلات التجارية لغلق منشآتهم يوما كاملا لولا تقاسمهم المبدئي وانخراطهم العملي في هذه الأشكال النضالية التي تصبح ملزمة للجميع نظرا للشكل الديمقراطي الذي تنبثق منه وهو الحلقة التقريرية الجماهيرية. شيئا فشيئا سيستفيق الجميع على توسيع رقعة الاحتجاجات وبنفس الآليات التنظيمية فتظهر لجان لمتابعة الشأن المحلي بكل من بوكيدارن لتمتد نحو مناطق أخرى خارجة عن قبيلة بني ورياغل ضمن الريف المغربي دوما وهي دائرة الريف : ميضار وأزلاف وقاسيطة، وسيتم التنسيق بين فعاليات وشباب هذه المناطق حين سيتم المشاركة بشكل تناوبي في الأشكال النضالية التي تعقدها كل بلدة على حدة، إلى أن تتجرأ السلطات على اختطاف واعتقال أحد المناضلين المنتمين للجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب وعضو اللجنة المركزية بآيث بوعياش عقب مشاركته في مسيرة نظمتها لجنة متابعة الشأن المحلي بقاسيطة وأزلاف من خلال التعرض لحافلة نقل عمومية وإنزاله أمام مرأى ومسمع الركاب واقتياده مكبلا نحو التحقيق في إحدى مخافر الشرطة وسط الحسيمة ليلا، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى جعل بلدتي بوعياش وميضار في يوم دون ليل، حيث أعلنتا المبيت الجماعي خارج المنازل وسط الشوارع مطالبين بإطلاق السراح الفوري للمعتقل دون قيد ولا شرط، وهو ما سيتم تحقيقه بهذا الصمود الذي شارك فيه الشيخ العجوز والرجل الكبير قبل الشاب اليافع والطفل الصغير. رابعا : الإقدام على تنفيذ جريمة الاغتيال السياسي في حق الشهيد كمال الحساني أحد أشرف أبناء الشعب الكادح ببلدة آيث بوعياش، وهي النقطة المفصلية التي ستزيل القناع عن طبيعة ودموية من يتستر بإعطاء صورة مغايرة عن ديكتاتوريات البلدان المجاورة والتطبيل لخرافة الإستثناء المغربي الفريد ضمن الربيع الزاحف بقوة. مما سيجعل البلدة محجا لكل من لا زالت تسري في عروقه ذرة غيرة عن الوطن والوطنيين، فيتم تشييع جثمانه في موكب لا يقام إلا للعظماء من طراز أمثال الشهيد، وتأتي أربعينية الشهيد للتأكيد بشكل جماعي من ساكنة البلدة على شعار “لا تصالح” وعدم ترك الخندق إلا بتحقيق الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية. خامسا : ستتعزز المكانة النضالية للمنطقة وستتقوى أكثر بعد حدث الإستشهاد، إذ سيصر السكان على الرفض الجماعي لآداء فواتير استهلاك مستحقات الكهرباء، والإصرار على المضي في تنفيذ خطوات الإضراب العام مع الإستمرار في قطع الطريق العمومية بالشكل المشار إليه في العنصر الثالث، من أجل الاستجابة لمطلب مجانية الإستفادة من الكهربة لمدة سنتين دون مقابل. وستكون المنطقة على موعد إنزال معركة الأقاليم الخاصة بالمعطلين والتي سيتعاطف معها فئة عريضة من الساكنة خاصة وأنه أصبح في كل منزل معطلين أو معطل بشواهد عليا. سادسا : اعتادت الجماهير نهج سبل المطالبة والصمود إلى غاية تحقيق مكتسباتها، إلا أنه وفي تغيير مفاجيء وبشكل يوحي بتصيد العدو سيتم إنزال كثيف غير معهود لمختلف فيالق التدخل من أجل مهاجمة ثلة من الشباب الذي يقوم بالتناوب على المبيت في المعتصم الليلي المفتوح بوسط البلدة، الشيء الذي ستنتج ضده أشكال عنف ثوري حقيقية من أجل الدفاع عن الحق في البقاء من طرف الجماهير الشعبية، مما يعني أننا أمام وضع لا يسمح بعقد المقارنات الباطلة بين قوة النظام غير المشروعة والعنف المبرر الذي تنتجه الجماهير من موقع الدفاع عن حقها في العيش. ولا يحق لأحد مهما كانت دوافعه أو مبرراته أن يساوي بين الجلاد والضحية بحجة النتائج التي يفضي إليها العنف، لأن المرء مهما كان مسالما ومهادنا لن يستطيع تحمل هذا الضغط والإمعان في ارتكاب جرائم الاستعباد والتفقير والتغريب داخل الوطن في أبشع صورها : غياب التشغيل، نهب الثروات والخيرات في واضحة النهار، قمع الأصوات الحرة، اعتقالات بالجملة واغتيالات مخططة عن سابق إصرار وترصد ... ولا يمكن الرد عنها إلا بعنف جماهيري منظم، وهو حق يرقى لدرجة القدسية متجاوزا كل التنظيرات البرجوازية السافلة عن مدى شرعيته وحدوده. ولأن الهدف من وراء تثبيت هذه الملاحظات الستة ليس إطلاقا لفت الإنتباه إلى حقيقة ما يجري أو توسل عواطف أي كان من أجل الكف عن التنكيل بأبناء الشعب المغربي في الريف، أو استجداء أحد لدخول متاهة البحث عن الحقيقة وكشف ما يجري، على اعتبار أن الجماهير هي صانعة الحقيقة ومالكتها الوحيدة، وأكثر من ذلك فهي قادرة على خلق الطفرات النوعية في كل وقت وحين، وبالتالي صنع التاريخ بالفهم المادي العلمي الرصين، فإن الأمر الوحيد الذي نؤكده هو ما سبق لقائد أعظم ثورة للكادحين في التاريخ أن قاله يوما، حين صدح بأن البلشفيين ليسوا في حاجة لمن يصفق لهم، بل هم في حاجة لمن يتبع تكتيكاتهم في العمل السياسي. آيث بوعياش، في : 14ِِ/03/2012 الرفيق طارق -الحوار المتمدن لقراة الموضوع من مصدره التفضل بالضغط هنا