من مكان للتربية وتعلم المعرفة وغرس القيم النبيلة، انتقلت المدرسة إلى مكان لتدخين السجائر وتعاطي المخدرات بأنواعها وسط أطفال لا يتعدى عمرهم اثنتي عشرة سنة. يرسم بأنامله الصغيرة علامة النصر عن طريق ضم جميع أصابع اليد مع رفع السبابة والوسطى، لكنه بدل أن يرفع يده عاليا يقربها من فمه ثم يبعدها وينفث دخانا خياليا، يعيد الكرة مرة أخرى، يبتسم برضا، ويقول هذا الطفل الذي أتمم قبل أسابيع قليلة سنته الخامسة: "أنا كبير دابا". لغة الدراسات والأرقام تقول إن بين 12 و14 في المائة من الأطفال في المرحلة الابتدائية يتعاطون التدخين، وقد يصبح هذا الطفل واحدا من هؤلاء لأنه، مثل عدد من الأطفال، يستعجل الرجولة ويرى في السيجارة رمزا لها. وأظهر آخر الدراسات أن أكثر من 24 في المائة من المراهقين بدؤوا التدخين قبل سن العاشرة، وكلما تقدموا في مراحل الدراسة ارتفعت أعدادهم، حتى تصل إلى نسبة 60 في المائة بنهاية المرحلة الثانوية. وجود مدخن واحد على الأقل في الأسرة المغربية أمر عادي جدا، حتى إن مدخنين كثيرين لا يترددون في إشعال السيجارة أمام أفراد أسرتهم. مما يجعل الأطفال والمراهقين يرون في التدخين شيئا عاديا جدا وسلوكا مقبولا اجتماعيا وفي بعض الأحيان مرغوبا. من بين هؤلاء رضا، 11 سنة، التلميذ في السنة الخامسة ابتدائي، الذي أشعل سيجارته الأولى قبل ستة أشهر تقريبا وسيجارة الحشيش الأولى قبل شهر. "لماذا لا أدخن؟ ما الذي يمنعني؟"، يقول رضا بعصبية ونرفزة. يصمت للحظات ينظر فيها إلى المارة الذين يسارع بعضهم للاختباء من قطرات المطر التي جادت بها السماء ذلك الصباح، فيما يفتح البعض الآخر مظلاتهم، قبل أن يضيف: "أبي في السجن بسبب السرقة وهو يدخن السجائر والكيف ويعاقر الكحول ويتناول الأقراص المهلوسة. أمي تعمل كسالة في الحمام وهي تدخن هي الأخرى. إخوتي كلهم يدخنون... لماذا لا أفعل أنا مثلما يفعلون؟"، يعلن عن عدم نيته متابعة الحديث ثم يغادر مسرعا. "أعرف جيدا أن التدخين مضر بالصحة وقد يؤدي إلى الإصابة بسرطان الرئة، لكن مع ذلك فالأمر لا يهمني"، يقول أنس، 13 سنة، بنبرة استهزائية، يأخذ نفسا عميقا من سيجارة بيده قبل أن يضيف صديقه طارق، 12 سنة: "الكل يدخن من حولنا... أبي يدخن... أخي الأكبر يدخن ... معظم الأساتذة يدخنون... حتى نجوم السينما الهوليوديون يدخنون السجائر... الكل يدخن، فلماذا لا نحن؟". يحرك كل من فؤاد وأنس رأسيهما بالإيجاب ثم يقهقهان. 24 في المائة من تلاميذ الإعداديات يدخنون، وذلك حسب بحث حول استهلاك التبغ في أوساط الشباب، كما أن 7 من المدخنات أمهاتهن يتعاطين التدخين. وقد استهلك المغاربة قرابة 14.4 مليار سيجارة سنة 2006، ليكون بذلك المغرب في المرتبة الخامسة عالميا من حيث كمية السجائر المستهلكة. كما أظهر بحث وطني عن التدخين بالمغرب أن المدخنين المغاربة، والذين يتشكلون أساسا من المراهقين والشباب، ينفقون ما يقارب1.17 مليار دولار سنويا لشراء السجائر، كما كشف البحث أن 3% من المدخنين المغاربة من النساء. غالبا ما تفتح أول سيجارة الباب أمام سجائر أخرى كثيرة، وقد تقود إلى الغوص في عالم الحشيش والمخدرات الأخرى، ويعتبر الأطفال، خاصة مدمنو التبغ منهم، صيدا سهلا بالنسبة إلى بائعي المواد المخدرة الذين يستغلون ضعف تجربتهم ويبتكرون عدة طرق ليضعوا أرجلهم في طريق إدمان الحشيش الوعرة والخطرة. عند أبواب إحدى المؤسسات التعليمية بالعاصمة، يقف ثلة من التلاميذ يرقبون تحركات المدرسين حتى يلجوا المدرسة، ثم يذهب أحدهم لملاقاة شاب يقف على الجانب الآخر من الطريق. يمده بالنقود، ثم يفتح حقيبته المدرسية ليخفي بها الأشياء التي اشتراها للتو، ويعود إلى أصدقائه، يتبادلون بضع كلمات ثم يدخلون المدرسة. الحقائب المدرسية لعدد من التلاميذ الذين أدمنوا في سن صغير جدا تجدها ملأى بحلويات (المعجون، الكيك) أو الحشيش، وحتى حبوب الهلوسة (القرقوبي). ولجأ مروجو هذه السموم إلى أساليب مبتكرة وخطيرة لتوسيع قاعدة المستهلكين والزبائن المحتملين، وذلك برمي كميات كبيرة منها، خاصة الحبوب المهلوسة، في محيط المؤسسات التعليمية. وأصبحوا يتبارون في طريقة تحضير هذه السموم واختيار الأسماء لها؛ فهناك "شكيليطة" و"القاتلة" و"غريبة" و"المشطة" و"الفانيدة" وغيرها. الطفل باستعماله للمخدرات لا يبحث عن المتعة بقدر ما يريد التخلص من المعاناة والمشاكل، يوضح أصحاب الاختصاص، وهو ما يؤكد ارتباط استعمالها بمجموعة من المشاكل والإكراهات الاجتماعية من فقر، هروب من المنزل، أمية وعنف، بالإضافة إلى بعض العوامل النفسية المتمثلة أساسا في الخجل، الاكتئاب، عدم الثقة في النفس، الفشل في ربط علاقات اجتماعية والاندماج في المحيط المجتمعي. بدأت قصة حنان، 13 سنة، مع السيجارة بعد انفصال والديها. لم تستطع تقبل الأمر بسهولة كما فعل أخوها الأكبر، كما أنها لم تستطع التعود على الانتقال الدائم بين منزل أمها و منزل والدها. "أحسست بفراغ عاطفي قاتل وبإحساس بالذنب"، تقول حنان وهي تغالب دموعها. هذا التنقل الدائم أعطى حنان فسحة كبيرة من الحرية دون مراقبة من الأهل، وهذا ما سهل وقوعها في إدمان السجائر وانتقالها بعد ذلك إلى إدمان تدخين الحشيش. تخرج حنان علبة السجائر.. تمد واحدة لصديقتها مريم ثم تخرج بعد ذلك من جيب سروالها الجينز الأسود الولاعة وتشعل السيجارتين. تبدأ الصديقتان بأخذ نفس تلو الآخر ويداهما ترتجفان. تنظر حنان إلى شعلة السيجارة الحمراء بينما ترمق مريم الأفق وهي ترسم ابتسامة على شفتيها. "الحشيش يجعلني أنسى كل القرف والبؤس الذي يطبع حياتي"، توضح مريم وهي تأخذ آخر نفس من السيجارة، قبل أن ترميها جانبا بينما تقوم حنان بلف الحشيش في ورقة صغيرة. "بالنسبة إلى الكثيرين فنحن طفلتان صغيرتان ورؤيتنا ونحن ندخن تصيب الناس بالصدمة والدهشة. لذلك نختفي عن الأنظار في زقاق خلف الإعدادية، وقد اعتدنا على المجيء إلى هنا منذ السنة السادسة ابتدائي"، توضح حنان. وفي الوقت الذي تفضل فيه الفتيات التدخين بعيدا عن الأنظار، في الزقاق الذي لا يبعد سوى ببضعة أمتار عن باب الإعدادية، دورات المياه الخاصة بالفتيات، فإن عددا من الفتيان يحرصون على التدخين في العلن على مرأى من زملائهم. أمام باب المدرسة، خرج يوسف، 10 سنوات، قبل أشهر رفقة أصدقائه ليشتري حلوى معينة اعتاد اقتناءها لكن البائع هذه المرة قدم له نوعا جديدا منها، وأكد له أنها لذيذة جدا وأنه لن يندم على شرائها، وأنه بعد ذلك سيداوم عليها. أخذ منها وقدم البعض لأصدقائه لينتهي الحال بثلاثة منهم في المستشفى بعد الإصابة بالغثيان الشديد، وليتم فيما بعد اكتشاف أن تلك الحلوى الحمراء اللذيذة هي مخدر، وليصبح يوسف الصغير مدمنا وتغتال براءته بحلوى مزيفة. بالدموع الساخنة تروي أم يوسف، الذي خضع للعلاج من أجل التخلص من إدمانه: "صدمنا جدا عندما علمنا بالأمر... ذهبنا بيوسف على وجه السرعة ليكشف عليه الطبيب والذي أكد لنا إدمانه. المدرسة مكان من المفترض أن نكون مطمئنين على أولادنا فيه، لكن من الواضح أن جشع مروجي المخدرات لم يسلم منه حتى الأطفال".