تابعت ولا أزال، ملف إغتيال رفيق الحريري، وتداعياته على الساحة اللبنانية والإقليمية والعربية والإسلامية، وكنت كغيري من الغيورين على هذا البلد الذي يُعتبر بحق منارة حقيقية للفكر العربي والإسلامي، ومنارة للحريات الدينية والسياسية، وأرضا مثالية للتعايش بين الطوائف والديانات، قلت كنت أنتظر أن تتحرك قواه الحيّة، لوضع حدّ للعبة الصهيوأمريكية، التي رفع فيها قميص الشهيد رفيق الحريري، ليس بهدف القصاص من قاتليه الحقيقيين، وإنّما للقصاص من لبنان الذي أنتج المقاومة، وحقّق النصر على الصهاينة، في معركة لم تكن متساوية من حيث الإمكانيات والقوّة، لكنه حققها بفعل قوّة الإيمان بعدالة قضيّته، وقوة إيمانه بمشروعية مقاومته، هذا البلد الصغير الذي حقّق ما عجز عن تحقيقه العرب مجتمعون. لا يُمكن برأي أي عاقل مُستنير، أن يظل يتلذذ بحلاوة النصر على الصهاينة، ولا يُعقل أن تتركه الإدارة الأمريكية المتحالفة مع الصهاينة، ينعم بالهدوء والطّمأنينة، وشخصيا كنت أنتظر ردّة فعل الصهاينة والأمريكيين، في أي وقت، لكني لم أتصوّر البتة أن يُشارك في اللعبة الصهيوأمريكية وعلى المكشوف، بعض القوى اللبنانية ذات الوزن والثقل على المستوى العربي والإسلامي، وأخصّ بالذكر هنا رئيس تيار المستقبل، ورئيس الحكومة اللبنانية في آن واحد، السيد سعد الحريري، لاعتبارات عديدة، أوجزها، في كون هذا الأخير، بات اليوم مسؤولا على الحفاظ على أمن وسلامة لبنان، بحكم منصبه، وإن هو واصل اللعب بهذا الشكل المفضوح، فلا يمكن إلا أن نضعه في خانة الخائن لشعبه وبلده، وهذا ما لا نتمنّاه له. لأنه وبحسب رأيي لا يُمكن أن نُصدّق بأن السيد الحريري لا يعرف تمام المعرفة من قتل أباه رحمه الله، لأن طريقة الاغتيال وظروفه، ودواعيه الحقيقية، لا تترك أي محقّق يضيع الوقت كثيرا في التفكير في هويّة المخطط للاغتيال، والذي لن يكون إلا إسرائيل وكفى. والسيد الحريري يعرف ذلك جيّدا، لكنّه وللأسف الشديد يرفض الإقرار بذلك، ليس بدافع التغطية على أخطائه التقديرية، "لأنّه اعترف بإساءة شهود الزور لعلاقات لبنان مع سوريا في قضية اغتيال والده"، ولكنه يرفض الإقرار بإساءته للبنان ككل وللمقاومة بالأخص، لأنه بات سجين حسابات مصلحية ضيقة في الداخل اللبناني، وبات يُسيّر بلجام تتحكّم فيه إسرائيل وأمريكا وبعض القوى الغربية الحاقدة على كل ما هو عربي ومسلم، والتي تُراهن كلّها على إحداث تفجير في لبنان من الداخل، باستعمال أجهزة تحكم عن بُعد. فالتفجير الداخلي للبنان، عبر آلية "المحكمة الدّولية"، سيُمثل بنظري بداية التطبيق الفعلي، لمخطط الشرق الأوسط الجديد الذي وعدت الوزيرة كوندليزا رايس بتحقيقه، وأعلنت ذلك صراحة من بيروت، إبان العدوان الصهيوني على لبنان في حرب تمّوز، وقد ظنّ البعض أنه بذهاب صقور البيت الأبيض، ومجيء أوباما، ستتخلّى أمريكا عن هذا المشروع، لكن الذي حدث ويحدث، هو أن أمريكا غيّرت فقط أدوات وميكانيزمات التنفيذ، فعوض القوة، لجأت إلى السياسات الناعمة لتفتيت العالمين العربي والإسلامي. فالسودان بات يُقسم بالاستفتاء، ومصر ورّطوها في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وزرعوا فيها بذور الفتنة، ومنطقة المغرب العربي حوّلوها إلى بؤر لإقامة مشتلات الإرهاب، وباكستان أضحت غارقة في العنف لأنها جارت أمريكا في سياساتها العدوانية بالمنطقة، والقضية الفلسطينية قزّموا مراميها وأهدافها، وجعلوا العالم يحصر مشكل الفلسطينيين في قضية وقف الإستيطان، أما العراق وأفغانستان والصومال، فقد نجحوا في تحطيم مقومات ومفاهيم الدولة بهم، وبالعودة إلى لبنان مرّة أخرى. أقول إن سياسة الشرق الأوسط الجديد شاءت له أن يشارك في تدميره من هم اليوم يتولّون شؤون إدارته، فالحكومة اللبنانية على عهد السنيورة خرقت الدّستور وصدّقت على إنشاء "المحكمة الدّولية"، وحكومته اليوم على عهد الحريري هي من يُشرعن لوأد القضاء اللبناني، بمنع إحالة ملف شهود الزور عليه، وهي من تُدافع عن براءة إسرائيل من إغتيال رفيق الحريري، باستهزائها من الأدلة والقرائن الدامغة التي قدّمها السيد حسن نصر الله عن تورط إسرائيل في عملية الاغتيال، ونجاحها في اختراق شبكة الاتصالات الهاتفية، فالحكومة اللبنانية بقيادة سعد الحريري، أصبحت اليوم أحسن أداة بيد الأمريكيين لتحطيم لبنان عن بعد وبدون أية تكاليف، وأحسن وسيلة لهدر وقت المقاومة التي من المفروض ألا تنشغل بأمور غير الاستعداد للدفاع عن لبنان، لكن الأمر الذي خفي عن جماعة المتآمرين على لبنان من الداخل، هو أنه في أي عدوان إسرائيلي جديد على لبنان، لن تُميّز فيه القذائف الإسرائيلية بين المقاومة وبين الموالين لأمريكا. وبكل تأكيد أن نجاح الدّاعمين لمؤامرة "المحكمة الدولية" سيمثل قمّة الخراب والدمار على لبنان والمنطقة ككل، وسيشكل النموذج الأول "الذي تشارك فيه حكومة بلد في تحطيم بلدها" وهذا ما لا يتمنّاه أي لبناني أصيل