إنه يومٌ من أيام الله العظيمة، وأحد الأيام الخالدات في دين الإسلام، التي أمرنا فيها الخالق عز وجل أن نفرح، وأن ندخل البهجة والمسرة والسعادة إلى بيوتنا، وإلى قلوب من نحب، إنه اليوم الذي افتدى به الله عز وجل هذه الأمةَ بذبحٍ عظيم، وأدخل فيه الفرحة في قلبِ نبيٍ كريم، ورسولٍ عظيم، كان قد سلم أمره إلى الله عز وجل، وخضع لإرادته، واستجاب لأمره، إنه جد نبينا الأعظم، ووالد اسماعيل الذي إليه ننتمي وننتسب، إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي فرح في هذا اليوم بولده، فأمرنا أن نفرح، وأن نبتهج ونسعد، وأن نزف البشائر إلى من نحب، كما قد زف إلى زوجه خبر الفداء، ونبأ الاصطفاء، وأن نمسح على جبين الأطفال، وأن نرحم الصغير والضعيف والكبير، فجاء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من بعده آمراً أمته بالفرح والابتهاج، والتقرب إلى الله عز وجل في هذا اليوم الأغر، استجابةً لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. فلبيك يا رسول الله، فإننا اليوم نستجيب لأمرك، ونتبع نهجك، ونؤمن بسنتك، ونهتدي بهديك، ونحيي معاً سنة جدك، فنسعى لبث الفرح، وبسط السعادة، وإشاعة الأمل، وتجاوز الألم، وإظهار البشاشة، ورسم الابتسامة، فنلبس الجديد، ونزور القريب والبعيد، ونصل الرحم، ونوصل من انقطع من حبال الود، ونغفر ونسامح ونتجاوز، ونعفو عمن ظلمنا، ونؤثر الصلح على الخصام، والصداقة على الخصومة والخلاف، نلتقي بمحبة، ونجتمع بألفة، وتسود بيننا المودة، فتغيب الخلافات، وتتلاشى التناقضات، وتتهاوى الحواجز والعقبات، في جوٍ يملؤه الحب، وتسوده السعادة، وتظلله المودة، فهذا يومٌ أمرنا الله فيه أن نفرح، فسنفرح، وأمرنا فيه أن نتزاور، فسنتزاور، وأمرنا فيه أن نتصالح، فسنتصالح، وأمرنا فيه أن نتغافر، فسنتغافر، وأمرنا فيه أن نتجاوز عمن ظلمنا فسنتجاوز، وسنعفو ونغفر، وأمرنا فيه أن نجتمع، فسنلتقي من شتاتنا، وسنجتمع من فرقتنا، ففي هذا اليوم يا رسول الله سيلتقي الأخوة والأحباب، وسيهنئ بعضهم البعض بفرحة العيد، وسيتصافحون لتتحات ذنوبهم، وتتساقط معاصيهم، ويتطهرون من كل زلةٍ وخطيئة، وستشملهم أرضنا بمودتها ودفئها، وستبارك لهم الزيارة واللقاء، وستكلأوهم بحنان الأم، وعطف الأب، إنها أرضنا الرحبة الرحيمة، التي اتسعت لنا قديماً، وستفتح لنا ذراعيها في أيام العيد لنلتقي، أرضنا التي غرسنا فيها آباءنا وأجدادنا، ودفنا فيها أبناءنا وإخواننا، أرضنا التي اصطبغت بدم شهداءنا، والتي تفتخر بأن عليها آثار أقدام الشهداء والنبيين والصديقين، بنا تفرح عندما نلتقي ونتصالح ونتصافح. اليوم ينبغي لنا يا رسول الله أن نفرح، وأن نبتهج ونسعد، ولكن كيف لفرحةٍ تتسلل إلى قلوبنا، وتدخل بين حنايا صدورنا، وتطغى على أيامنا، وتنعكس على أطفالنا وصغارنا، وتدخل السعادة إلى قلوب أمهاتنا المسكينات، وأخواتنا الحزينات، ونحن لا نحمل لبعضنا حباً، ولا نكن لأنفسنا خيراً، نعادي بعضنا، ونكره أنفسنا، نتآمر على بعضنا، نتحالف مع أعداءنا، ونخاصم أشقاءنا، وندمر الزاهي من تاريخنا، ونشوه الجميل من ماضينا، فشوهنا صورتنا، وعبثنا بتاريخنا، وخنَّا دماء شهداءنا، وفرطنا في عطاء السابقين، وجهد المقاومين، وتنازلنا عن حقنا وحقوق أجيالنا، وبتنا صورةً مقيتةً لأمةٍ تناضل من أجل استعادة حقها، وتحرير أرضها، ونيل حريتها، وبناء دولتها. أمنيتنا يا رسول الله أن نفرح، وأملنا أن نكون سعداء مبتهجين، ولكن غصةً كبيرة تعترض فرحتنا، وتحول دون سعادتنا، فالخصومة بين فرقاء شعبنا قائمة، والعداوة مستحكمة، والخلافات طاغية، والتراشق الإعلامي نشط، والسباب حاضر، والشتائم جاهزة، وسوء النية مبيت، والاتهامات معدة، والتصنيفات مسبقة، وكلٌ يعمل لحسابه، ولصالح فئته، وأحياناً من أجل شخصه، دون مرعاةٍ لحاجة أهله وشعبه، والمصالحة أبعد ما تكون، والمصافحة كذبٌ وخداع، والابتسامات زورٌ وتضليل وبهتان، والتصريحات عارية عن الصحة، وغير معبرة عن الحقيقة، والأمل الذي كان مات، والفرحة التي طلت غابت، والنفوس التي تهيأت للمصالحة خاب رجاؤها، وسكن الحزن فؤادها، وقد تهيأت لتعيش فرحة العيدين معاً، فرحة عيد الأضحى، وفرحة المصالحة واللقاء، وجمع الشمل وتوحيد الكلمة، واستعادة بهاء المقاومة، ونقاء صورة الشعب. كيف نفرح وسجوننا الوطنية مليئة بالمعتقلين المقاومين، الذين تزخر بهم السجون المعتقلات، وفيها يعذبون ويضطهدون، ويعانون ويقاسون، ويجرمون ويحاكمون، ويحرمون في العيد من كل فرحة، ويجردون من كل بسمة، ويمنعون من لقاء أهلهم، والاجتماع مع محبيهم، وهم في ازديادٍ دائم، أعدادهم تزيد ولا تنقص، وأحكامهم ترتفع ولا تخفض، ولا ذنب قد ارتكبوه سوى انهم أصروا على المقاومة، ورفضوا الذل والخضوع والإهانة، ومضوا على طريق العزة والكرامة، فما كان إلا أن زج بهم في السجون والمعتقلات، وغيبوا عن أمهاتهم وأطفالهم وذويهم، مما جعل الفرحة بعيدة، والابتسامة باهتة، والحزن قاتم، ولو أن المتفاوضين كانوا صادقين، لكانت المصالحة الوطنية قد سبقت العيد، فأخرجت المعتقلين، ومنعت اعتقال آخرين، ولعل أبناؤنا المعتقلون في السجون الفلسطينية هم مصدر الحسرة والغصة، ومكان الألم والآهة، فنحن لا نبتئس لما يقوم به عدونا تجاهنا وضدنا، وإن غيب آلافاً من أبناءنا، ولكن غصتنا أكبر، وحزننا أعمق، عندما يكون سجناؤنا في سجوننا، نحتجزهم نحن، ونعذبهم نحن، ونقف على أبواب زنازينهم حراساً وجلادين، أشبه ما نكون بالسجانين الإسرائيليين، نقوم مقامهم، ونتصرف مثلهم، ونؤدي الدور نيابةً عنهم. كان من الممكن أن يكون عيدنا عيدين، وأن تكون فرحتنا فرحتين، لو أننا تصالحنا واتفقنا، ولو أننا عدنا إلى ثوابتنا وأصولنا، وأكدنا على أننا أحرارٌ في اتخاذ قرارنا، وفي صوغ اتفاقياتنا، على أسسٍ من الوطنية، وقواعد من المهنية، ولكن تأبى المصالحة إلا أن تكون غصة في حلوقنا، وآهةً في نفوسنا، وتأبى الخصومة إلا أن تفسد فرحتنا، وتشتت جمعنا، وتفرق وحدتنا، وتحول دون سعادتنا، ولكننا نقول أن الفرصة لم تفت، والمناسبة لم تضع، والغاية مازالت قائمة، والقدرة حاضرة، وإرادتنا قوية، فلم لا نقتل الغصة، لنحي الفرحة، ونصنع السعادة، ونخط كلمات المصالحة، لنفرح... وندخل الفرحة في قلوب الملايين من أبناء شعبنا وأمتنا، وعلى أي حالٍ، وبأي حالٍ قد حل عيدنا، فكل عامٍ وأنتم بخير، في الوطن والشتات، وفي السجون وعلى ثغور الأرض مرابطين ثابتين. دمشق في 15/11/2010