حين هربت البنت الصغيرة من أمامى , ولم تنتظر منى أن أفاتحها فى موضوعات جديدة , أو ألعب معها بعروستها المفضلة . قلت لنفسى : ربما هى ذاهبة لتحضر شئ ما , ثم تعود لتجلس أمامى , أتأمل وجهها الصغير وملامحها الجميلة , ومن آن لآخر أربت على شعرها , وأسألها أسئلة مكرورة ومملة : هيه عاملة أيه فى المذاكرة ؟ كانت دائما هذه البنت كلما ترانى تجرى نحوى فاردة ذراعيها , مقبلة وجنتيى , ثم تجلس بالساعات أمامى تلعب مع عروستها . وأنا أتأمل حركاتها وأنفعالاتها وحكاياتها المحبوبة عن المدرسة والمدرسين والواجب . واليوم فقط ! أكتشفت أنها هرمت وأصبحت تشبه( سيدة الشتاءات العتيقة ) ترى من هى سيدة الشتاءات ؟ ومن هى تلك البنت ؟ سيدة الشتاءات نمت على حين غفلة من الطبيعة , حينما أصبح يأتيها البرد تلو البرد تلو البرد . ولا أحد يشعل حطبها الجاف الراقد فى الخزانة منذ سنوات طويلة . فصارت شتائية حمقاء تثور لأتفة الأسباب وتغضب من مجرد كلمة عتاب أو لوم . أما البنت الصغيرة فكانت دائما طازجة , تخرج من الأبواب المفتوحة لها , مثل الأحضان الدافئةمن الأم . والقهقهات العريضة من الأب وهو يدللها ويناديها : ياسمكة ياسمكة . وتخرج أيضا من نظرات الجيران والبقال وبائع الفول ودرس المدرسين . ولأنها كانت دوما طازجة , تعيش فى بحبوحة من الوقت واتساع عريض من العوالم المحيطة بها . قفزت سيدة الشتاءات وجاءت باحثة عن الطفلة . لقد خرجت من مخيلتى الآن . خرجت من كل الصباحات الطازجة , وبائع اللبن يدغدغ مشاعرها الرقيقة : الحليب يا قشطة . ثم يعطيها كوبا كبيرا من اللبن الطازج , تمزجه بقليل من الشاى وترتشف فى بطء وهى تجرى نحو حذائها, وترفع شنطتها على كتفها وتقبل أمها مع آخر رشفة من الكوب وتجرى منحدرة نحو الأفق البعيد ,تفتح الكراسات , وتلون الصباحات , وترسم زهور جميلة . وعندما تأتى مدرسة الرسم كانت تقف طويلا أمام الزهور , وتقطف واحدة تعلقها فى شعرها , وتميل على وجنة البنت وتقبلها : الله رسمك حلو قوى . تضحك البنت , وترفع عينيها قليلا , ترى ملامح المدرسة قد تبدلت , صارت أكثر نضارة وحمرة , بعدما علقت الزهرة فى شعرها , , فترسم البنت زهور كثيرة وتكتب اسفل الصورة !لى ( سيدة الشتاءات القادمة نحوى ) !نها تربكى بقبلاتها . لقد ذبلت الزهور . وما عادت البنت ترسم ولا المدرسة تشبك زهرة فى شعرها . كل ما كان تحول !لى برواز صغير تعلقه البنت فوق سريرها , وتنظر !ليه طويلا , ثم تعيد اليه الحياة بضحكاتها . المدرسة صارت بعيدة بعيدة . لم تعد تأتى بضحكاتها , ولا شعرها , ولا همساتها , وهى تداعب خصلات شعر البنت وهى ترسم وتقبلها : الله رسمك حلو قوى . لقد ذبلت الزهور . ومازالت البنت هناك ترسم وتلون . والمدرسة لم تعد تعلق فى شعرها زهور حمراء .