مع بدأ التسابق المحموم للإدارة الأمريكية لإنهاء سحب قواتها العسكرية المتواجدة في العراق والمقرر في نهاية العام 2011 تطبيقاً لبنود الأتفاقية الأمنية المشتركة بين بغداد وواشنطن ، تتضارب التصريحات وتتناقض بين السياسيين في كلا البلدين حول قدرة وجاهزية القوات العراقية على تسلم الملف الأمني بعد الإنسحاب الأمريكي من عدم قدرتها وجاهزيتها على تحمل مسؤولية الملف الأمني للبلاد. نتوقف قليلاً عند جملة من التساؤلات المطروحة في الوقت الراهن والمخاوف المشروعة وتحديداً عند أكمال القوات الامريكية إنسحابها من العراق وفق الموعد الزمني المحدد لذلك ، تزامناً مع عدم وجود حكومة تتولى مهمة تنظيم حياة المواطنين وتوفيرالأمن والخدمات لهم ، على الرغم من مرور أكثر من ستة اشهر على إنتهاء الإنتخابات النيابية للبلاد ... إذ أن انشغال قادة الكتل البرلمانية الكبرى في خلافاتهم وصراعاتهم الطاحنه وهوسهم بالسلطة والمناصب أدخل البلاد في أتون ازمة جديدة عرقلت من التوصل لصيغة منطقية مُرضية تشبع غرائز الخصوم في تقاسم المناصب والنفوذ في الحكومة الجديدة .ومن التساؤلات التي يجب أن تطرح ... هل أن سحب الولاياتالمتحدةالأمريكية قواتها من العراق يعني إنهاء لوجودها وإحتلالها له ؟ وهل فعلاً أن القوات العراقية لديها القدرة والجاهزية الكافية لتسلم الملف الأمني بشكل كامل من القوات الأمريكية كما قال نوري المالكي ووزير الدفاع في حكومته المنتهيه ولايتها ؟ وأن كان الأمر كذلك فلماذا نفى بابكر زيباري رئيس أركان الجيش العراقي ذلك بقوله أن القوات العراقية غير جاهزة لتسلم الملف الأمني بشكل كامل وانها تحتاج لوجود ودعم القوات الأمريكية لغاية العام 2020 ؟ وهل أن العراق "لاسامح الله " سيكون مُعرض لتهديدات خارجية من دول الجوار وخاصة من قبل إيران الطامع الأكبر في العراق بعد إنسحاب القوات الامريكية ، بإعادة إحتلاله من قبل تلك الدول ؟ ولنفرض أن امريكا تركت العراق ، وأصبح ساحة خالية تماماً لإيران ، هل ان إيران بحاجة لوجود عسكري لها في العراق لتضمن بقاء سيطرتها عليه و نفوذها ومصالحها فيه ،على الرغم من استمرار سيطرتها التامة على مفاصل الدولة وخارطة النظام السياسي دون ان تزج بقواتها النظامية إلى داخل العراق ، فإيران وعلى مدى اكثر من سبع سنوات تتحكم بالملف الأمني وتشارك أمريكا الملف السياسي ولها حصة الأسد من صناعة القرار فيه ، ناهيك عن حلفاءها التأريخيين الذين يشكلون محور العملية السياسية في العراق بعد الغزو ... أضافة إلى الإنهيار الأقتصادي الذي حصل في البلاد بعد الإحتلال والركود في السوق التجارية للعراق وانعدام الزراعة مما أجبر التاجر والمزارع ورجل الأعمال في الإعتماد على البضائع والمنتجات والسلع الإيرانية نتيجة غزوها للسوق العراقية بشكل كبير حتى وصل الحد بها انها شكلت شريان الحياة بالنسبة للعراق !!... وهل أن إيران لها الجرأة في أن تغامر بإحتلال العراق الإحتلال التقليدي "الغزو العسكري" ، في ظل الأزمة الدولية القائمة عليها بخصوص برنامجها النووي إضافة إلى الأزمة الداخلية التي تعيشها البلاد بعد الأنتخابات الرئاسية الأخيرة فيها ، وهل تتجرأ إيران على تحدي المجتمع الدولي بإحتلالها العراق ؟ وهل يتوجب على إيران أن تزج بقواتها العسكرية إلى العراق وتتحمل التكاليف المادية والبشرية الهائلة جراء الإحتلال ، وقد تُعرض قواتها لهجمات المقاومة العراقية ؟ قبل الاجابة على هذه الأسئلة والتي هي الشغل الشاغل اليوم للمواطن العراقي والمتابع للقضية العراقية تزامناً مع قرب موعد إنهاء القوات الامريكية انسحابها من العراق ، علينا أن نتطرق إلى تعريف مصطلح الإحتلال وما الغايه منه ، " الإحتلال " هو قيام دولة بأسقاط حكومة في دولة أخرى وتحكم بدلاً منها ، ولكي يحدث الإحتلال لابد من أن يسبقه غزو كونه وسيله له ، والغزو يبلغ ذروته في الشكل العسكري المباشر . ويكمن جوهر الإحتلال في سيطرة الغازي على البلد المُحتل والتحكم في شؤونه وتختلف طبيعة ونوع التحكم والإدارة من شكل لاخر وبنسب متفاوته من حيث التأثير . ففي عصرنا هذا للإحتلال صور ووجوه عدة لا تقتصر على شكل الإحتلال التقليدي ( العسكري ) بل تتجاوز ذلك نحو أشكال أخرى كالإحتلال أو الغزو ( الإقتصادي – السياسي – الإعلامي – الثقافي ) تلك هي عوامل وعناصر التأثير الأساسية لخلق حالة السيطرة بشكل مقنع وبراق ، والغاية في الأساس من الغزو هي الإحتلال والتمكن من السيطرة ، اذن ماالفرق بين الإحتلال التقليدي والمعاصر أن كان الأخير يحقق الغاية من اهداف الإحتلال وبأسلوب متماشي مع العصر الحديث ؟! .. لذا فأننا نستبعد بأن الولاياتالمتحدةالامريكية تستعد للخروج من العراق تاركه خلفها كل شئ ، بل ولن يحدث هذا الامر بأي ثمن من الأثمان على الاقل في الافق المنظور ، رغم الاكذوبة المضلله للحقيقة التي قالها أوباما بمناسبة إنتهاء المهمات القتالية في العراق بأن العراق بلد " سيد ومستقل " وهي أكذوبة تندرج ضمن قاموس الاكاذيب الامريكي الواسع . وكما يبدوا أن الأمر لايتعدى مسألة تغيير إستيراتيجية الحرب الأمريكية في العراق ، من خلال سحب القوات العسكرية ( التقليدية ) وإعادة نشر قوات ( غير تقليدية ) مهيأة ومدربة عسكرياً وامنياً واستخباراتياً تحت عنوان الشركات الامنية الخاصة، والغاية من هذا الأمر هو لتحقيق هدفان الأول لخفض كلفة الاستنزاف الحربي المادية ( المال والسلاح ) وخفض خسائر الأستنزاف البشري للجيش الأمريكي في العراق ، خاصة وانه يخوض معارك اخرى في عدد من دول العالم كأفغانستان ، اما الهدف الأخر إعادة نشر قوات مهيأة للتعامل مع بيئة الحرب غير التقليدية ( حرب العصابات ) قوات خفيفه سهلة الحركة نوعية في عملياتها وتعتمد في اهدافها على جمع المعلومات الدقيقة والتحرك وفقها للتعامل مع الهدف بدقة تامة . اما على الصعيد السياسي ووفق الإستيراتيجية الأمريكيةالجديدة ، بإعادة الضبط السياسي ونفوذ أمريكا في العراق من خلال حزمة من الأنشطة الدبلوماسية الضاغطة و السياسية الداعمة والاقتصادية المؤثرة ... من خلال التوسع في أدخال السلع والبضائع الأمريكية الى السوق العراقية ودخول كبريات الشركات الامريكية العملاقة في مجالات البترول والإعمار والتجارة إلى العراق ،فنلاحظ مثلاً قبل فترة قليلة حصلت مجموعة هاليبرتون ثاني اكبر مجموعات خدمات حقول النفط في العالم على عقد تطوير 20 بئراً نفطية جنوب العراق ، إذ أن البلاد تزدحم اليوم بوجود كم هائل من الشركات والمجموعات الإقتصادية الأمريكية العاملة في العراق والتي غالباً ماتكون مقربة من طبقة صناع القرار الأمريكي " النخبة الأمريكية " ومخططي وممولي الحرب على العراق !.. وعلى الصعيد الدبلوماسي مثلاً نلاحظ أستحداث عدد من القنصليات الأمريكية في محافظات عراقية موزعه بين الشمال والجنوب والوسط ، علماً أن هذا التوسع الدبلوماسي"المبطن "قد يتكررفي باقي محافظات العراق الاخرى حسب الحاجة ، أي أن هذا الأمر لايبدوا مجرد صدفة فأنه تزامن مع قرب الموعد المقرر لسحب القوات الأمريكية من البلاد ! ،ومن المؤكد أن لهذه القنصليات والممثليات الأمريكية أنشطه تقوم بها ، إذ أنها تساعد الأمريكين على التدخل في الشؤون السياسية ، الأقتصادية ، الأمنية ، الأجتماعية ، الثقافية ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، وتساعدهم في أحكام السيطرة على الشؤن الداخلية لهذه المدن وتثبيت وجودهم ونفوذهم فيها . ومن الجدير بالذكر أن نتطرق إلى ماشرحه وزير الدفاع الأمريكي السابق ( دونالد رامسفيلد ) عند زيارته في أحد المرات للعاصمة بغداد ولقائه بعدد من الجنود الأمريكان حيث قال لهم :أننا لسنا بحاجة لأن نسرع على أقدامنا ، إن ما نحتاجه هو إنجاز الأشياء خلال ساعات وأيام بدلاً من الأسابيع والأشهر ، وبأقل قدر من اثار أقدامنا على الأرض " ويُعرف اليوم هذا الأمر الذي تحدث به رامسفيلد بأسم ( مبدأ رامسفيلد ) حينما أعلن عنه بقوله : أن جوهر القوة العسكرية الأميركية هو أستخدام قوى مشتركة خفيفة وأسهل حركة في الحرب تدعمها المعلومات الاستخباراتية وقدرات القيادة والسيطرة بما في ذلك مضاعفات القوة مثل الأجهزة الفضائية والطائرات غير المأهولة "، لذا فأن من المهم أن نعرف بأن أقرب الأمور إلى مايحدث اليوم في العراق من قبل أمريكا هو تطبيقها لمبدأ " رامسفيلد " فنجد مثلاً، أن عناصر الشركات الأمنية المتعاقدة في العراق اي" المرتزقة " هم من جنسيات متعددة ، ونجد ايضاً أن تجهيزاتهم العسكرية وأمكانياتهم تتناسب مع بيئة وطبيعة الحرب التي تخوضها أمريكا في العراق وخاصة في المرحلة القادمة ،ولتذكير بما قاله رامسفيلد عن قوات خفيفه سهلة الحركة فأننا نجد من القوات الأمنية الخاصة أنها خفيفة وسهلة الحركة ، وذكر أيضاً بأنها تُدعم بالمعلومات الإستخباراتية ، فنجد فعلاً أن الشركات الأمنية هي عبارة عن مؤسسات إستخباراتية ضخمة ، ناهيك عن ذكره الطائرات الغير مأهولة ، وفق المعلومات المتداولة فأن القوات الأمنية الخاصة وتحت ذريعة توفير الأمن والحماية للسياسيين والموظفين الأمريكين في العراق فأنها ستلجأ إلى استخدام الطائرات الغير مأهولة في مهامُها الأمنية !!.. وقد كرر هذا المعنى نفسه قائد القوى المشتركة الجنرال ( ريتشارد مايرز ) وأكد على أن هذه الطريقة الأمريكيةالجديدة في الحرب فيها قوات مشتركة مرنة الحركة قادرة على رؤية الأعداء والتخطيط والتصرف وتقييم حالة ساحة المعركة بأسرع من ذي قبل .. من خلال هذا الحديث نفهم أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وكبار مخططي الحرب على العراق بعدما تورطت قواتهم في حرب إستنزافية بدأوا في البحث عن إستيراتيجية جديدة تقلل من حجم الخسائر المادية والبشرية لهم في العراق وفي نفس الوقت تكون ملائمة للحرب في بيئة مثل العراق تتداخل فيها كثير من العوامل ولهم فيها الكثير من الاعداء سواء من العراقيين أو الاجانب ، لذا فأننا نلاحظ أن الإستيراتيجية الأمريكيةالجديدة قد دخلت حيز التنفيذ لدى الإدارة الأمريكية من خلال مانشاهده اليوم من التغيير التام في شكل وجودهم الجديد في العراق ، الأمر الذي يؤهلهم للعب من خلف الستار أكثر من ذي قبل وبقوة مؤثرة على المدى البعيد ، وكما يبدوا أن رحى الصراع بين أمريكا وإيران على الساحة العراقية لاتزال قائمة مع تغيير في إستيراتيجية و أسلوب الأداء الأمريكي في المرحلة القادمة ...