"يؤتي الحكمة من يشاء ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" البقرة 269 من المعروف أن الفلسفة منذ بواكيرها الأولى مع الهنود والإغريق والفنيقيين والقرطاجنيين والعرب والرومان ارتبطت بالمعرفة والعلم والتفكير والإدراك والوعي وأنها تجسدت في انطباعات الحواس وامدادات الذاكرة وإرهاصات الخيال وخطابات العقل ورمزية اللغة وشعرية التصوف. ولعل أفضل ما اختصت به في ذاك الزمان هو حب الحكمة والشوق نحو الحقيقة والبحث عن المعنى والحرص على القيمة واحترام النواميس وبناء النسق وإتمام النظرة الموسوعية. ولكن الفلسفة المعاصرة استوعبت كل هذا وتعففت عنه وصارت تبحث عن التحطيم والتفكيك والنقد الجذري وتعشق أسلوب الشذرة خارج كل منهج وارتضت بلانهائية التأويل ومعقولية العدمية وخطت لنفسها مهمة الخوض في التخوم والهوامش ثورة على المركز وبحثا عن الأصل الذي لاأصل له واقتناعا بأهمية المظهر وغنى السطح. فهل هذا يعني أن الفلسفة قد تخلت عن نبراسها الهادي وأنها لم تعد حبا للحكمة؟ وما المقصود بأن في اللعب والكسل والكذب والوهم والعنف مزايا ومنافع؟ فأية علاقة جديدة ستقيمها مع كل من الحب والحكمة؟ هل أصبحت تنهل من الكره بعد أن ملت كل تجارب الحب؟ هل انقلبت إلى ضدها وأصبحت مجنونة لا تعترف إلا بكل أشكال اللامعقول والخلف المنطقي والعبث والفارغ من المعنى واللاحكمة؟وما الحكمة من لاحكمية الفلسفة المعاصرة؟ وهل تعلمنا حب التفكير أم حب الحياة؟ ألا ينبغي أن تولي وجهها شطر حكمة النظر وحكمة العمل من أجل أن تؤهل الناس للوعي بالزمان والفعل في التاريخ؟ يبدو أن مطلب الفلسفة المعاصرة من الإنسان هو أن يهجر ديار الحكمة والتحكم وما رافق ذلك من تسيد وتذويت وتمركز وأن ينقل لنا بعد التشخيص والوصف بعض من الوضعيات اليومية التي يتخلى فيها عن كل أشكال السيطرة العقلانية والمنهجية في تسيير حياته وأن يعبر بحرية عن لاوعيه وحمقه وأنانيته وعنفه وعن كيفية وقوعه ضحية حتميات اجتماعية وطبيعية وسلطات اقتصادية وسياسية ويسرد تناهيه وتشظيه وعجزه عن تحمل خفته وعن الإقامة في العالم. من البين إذن أن الفلسفة اليوم لم تعد تحب الفكرة الشاملة والحقيقة المجردة بل أصبحت تسعى إلى اقتناص المنفعة الجزئية والمصلحة الآنية وتتصيد الفرصة السهلة والحياة الممتعة وبالتالي لم يعد موضوعها طلب المعلوم الأسمى بل العناية بالمرء صحة وتربية وحياة وسكنا في الكوكب. وكما يقول سانتيانا:"ليس من الحكمة أن يكون الإنسان حكيما فحسب" بل عليه أن يوظف هذه الحكمة في معاشه ومعاده وأن يحذر من أن تنقلب إلى قوة تتحكم فيه. هكذا من جديد التفت الفلسفة نحو طرق تفادي الألم وشرعت في البحث عن الدروب المؤدية إلى السعادة ومن جديد عرض الفيلسوف خدماته وأسئلته على سكان المدينة بحثا عن هوية ضائعة وسط ركام الأجوبة المعلبة وهكذا أطلق عنان التفلسف في طبقات الميراث والتقاليد. الفيلسوف الجديد هو الرجل الحر الذي يعاند الحكيم ويبغض صرامته وجديته ويخشى الموت ويحب الدنيا ويكره التكلم عن الروح وتجذبه الأهواء ويحركه الجسد ويفتنه الشعر ويقلب العلاقة بين الخير والشر وتستهويه الرذائل وتثقل عليه الفضائل وتبحر به إرادة القوة ويجرفه طغيان الغريزة ويفنيه الضحك وتهلكه السخرية وتعلمه النميمة واللغة العادية وتسرق منه الصناعة ذكائه وتتحكم الوراثة في مؤهلاته ومصيره وتحمله ثقافة الاستهلاك ومجتمع الوفرة إلى وجهة غير معلومة وتغمره آراء الحشود. إن الحكمة لا تدرس وان المعرفة لا تقابلها الذات وان الحقيقة بعيدة كل البعد عن التطابق وان المتفلسف الجديد ليس سوى خرائطي ماهر يهتم برسم خطوط التمايز بين المناطق المظلمة والأخرى المنارة. كما أن مفكر مابعد الحداثة هو حاسب ومتصرف في شؤون المعلومة أو خبير في تكنلجة الحياة والاقتصاد. في الواقع إن الفلسفة المعاصرة تتراوح بين خيارين: الخيار الأول هو ادعاء الحكمة واستعادة الدوغمائية القديمة في شكل واقعية علموية واثقة من سيطرة العلوم والتقنيات على الطبيعة ومن قدرتها على التحكم في الظواهر، أما الخيار الثاني فهو تبني التنسيب كحجة كسولة والذرائعية في الجانب العملي واستعادة النزعة السوفسطائية التي تمجد الخطاب وتترك الفرصة للمحاججة بين الآراء المتصارعة وتشرعن العنف باسم سلطة الأقوى. لكن يبدو أن الخيار الثالث بماهو عودة الفلسفة إلى حفاري قبرها من أجل البحث عن حكمة في الحب وعن حب للحكمة يظل أمرا متروكا ومؤجلا إلى زمن يمل فيه الكائن الآدمي من لعب النرد مع الآلهة ويقبل على الوجود بغير تحفظ وينشد مع بقية الكائنات قصيدة العودة إلى حدائق الأكوان الكبرى. إن الإنسان لم يخلق ليصبح حكيما وعاشقا فقط بل إن حبه للحكمة هو الذي يجعلها محبوبا وحاكما على ذاته ومحبا للآخرين. وان الحياة الإنسانية بلا حكماء تكون ممكنة ولكن الذي يجعلها جديرة بأن تعاش هو عزوف هؤلاء الآدميين عن ولههم بذاتهم وانهماكهم في حب جواهر الأشياء والبحث عن أسرار الكون. أن نتعلم كيف نتفلسف اليوم هو أن نعرف كيف نواجه الأنساق الفلسفية التي تركها لا لنا كبار الفلاسفة وأن نحسن تدبير العبر والمعان التي تزخر بها مؤلفاتهم وأمهات كتبهم وذلك الهدف من الفلسفة ليس تحريض الناس على حب الحياة فقط وإنما كذلك مساعدتهم على إيجاد معنى لحياتهم. والجمهور ينتظر بلهفة شديدة إلى ما تجود به قريحة الفلاسفة من حكمة حتى يسترشدوا بها وسط هذا الضجيج المعولم والحياة الصاخبة. إن الفلسفة في حد ذاتها لا توفر للإنسان زادا معرفيا رفيعا ونفائس من العلوم الكونية فحسب وإنما تجعله يتذوق جود الوجود وينعم بفيض الخاطر وينغمس ولهانا في حب الحقيقة دون أن يبالي بمصاعب الطريق ومخاطر الرهان. وان هذا الدور هو الذي جعل من الفلسفات التي وجدت على مر التاريخ كنوزا مهمة. على سبيل المثال إن هذه الحكمة الكونفسيوشية تظل معينا لا ينضب للمعنى والقيمة وتلهم كل كائن بشري في أي زمان وأي مكان شريطة أن تكون مالكة لجميع حقوقها:" إذا قابلت رجلا مبدئيا فينبغي أن تبحث كيفية للتشبه به وأما إذا قابلت رجلا سيئا فينبغي أن تبحث عن عيوبه في ذاتك عينها لكي تتخلص منها." خلاصة القول أن الحكمة بالمعنى العتيق للكلمة والجامع بين التعقل والدراية وبين التأمل والتدبير غائبة عن نظريات الفلسفة المعاصرة وتوجهاتها وماهو موجود منها هو مجازها الميت وطيفها البعيد وظلها الباهت،فماهي أسباب هذا الإخفاء والحجب لدرة التفلسف الأصيل؟ وهل من الحكمة ألا نحب الحكمة اليوم؟ أليس من الحكمة أن يكون الإنسان محبا للحكمة فحسب؟