في ندوة علمية مختصة في التربية بعمان فاجأ الدكتور عبد الحميد أبو سليمان مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي الحاضرين بسؤال بسيط ولكنه ذو مغزى عميق في مجال برامج ومناهج التربية الإسلامية ذلك أن ابنته وهي تدرس بمدرسة عربية إسلامية خاصة بواشنطن مادة اللغة العربية والدين الإسلامي، جاءته ذات مساء مهمومة مغمومة تسأله عن معنى مصطلح ( بنت لبون) في درس الدين الإسلامي، فاستنفر الرجل عدته العلمية واستحضر أن( بنت لبون) هي صغيرة الناقة التي لازالت تتغذى على حليب أمها، وأن الأمر يتعلق في هذه الحال بزكاة الإبل ، فربط بين المصطلح والبنية المفاهيمية البسيطة للطفلة التي لما تتجاوز بعد مرحلة التعليم الابتدائي ، فنظر في دفترها في مادة الدين الإسلامي ، ليجد نفسه أمام إحصاءات وبيانات تفصيلية لزكاة الأنعام والزروع والثمار وزكاة الورق والذهب والفضة وغير ذلك من المفاهيم الدقيقة في فقه الزكاة ، والمطلوب من الطفلة أن تستوعب كل ذلك وبالتفصيل ، حتى إذا اختلت بدميتها ونامت على سريرها، غاب عنها الجمل وما حمل، ولم تجد في محيطها أي خيط سلوكي أو وجداني يربطها بالمادة التي درستها ، إلا ما تستحضره حين يقترب موعد درس الزكاة من عبء حفظ تلكم التعاريف والأرقام والمصطلحات. فجرت الحكاية في ذهن خبراء التربية الحاضرين في هذا اللقاء العلمي، سؤالا شغل المختصين في بناء المناهج التعليمية في كل المواد الدراسية ، ومنها مادة التربية الإسلامية ،بنفس القدر الذي يشغل بال الآباء ، ذلكم هو قدرة واضعي المناهج الدراسية، و مؤلفي الكتب المدرسية ، والمدرسين على تحويل المحتوى المدروس من مادة علمية إلى مادة تعليمية. ونحن نعتقد أن العيب كل العيب ليس في طبيعة المعرفة الإسلامية المقدمة للتلميذة من طرف المدرس ، فهي معرفة علمية مؤصلة شرعا بالكتاب والسنة واجتهادات العلماء ، ولكن الإشكال يتمثل في كون المدرس فرض على التلميذة أن تتعامل مع مفاهيم فوق مستواها الإدراكي والذهني وخارج اهتماماتها في تلكم المرحلة ، بل الأخطر من ذلك كله تفويته فرصة استثمار الجانب الوجداني اليانع للتلميذة في هذه المرحلة من العمر حيث كان من المناسب تقديم معارف مبسطة تبرز الحكمة من تشريع الزكاة ،كالعناية بالأيتام والأرامل والمشردين والفقراء والمساكين ،هذا البعد الاجتماعي النبيل الذي يناسب المستوى الإدراكي للتلميذة وتلكم هي المعرفة التي ينبغي أن ترسخ في ذهنها بالضبط في مثل هذا السن ، وإذا فوتت هذه الفرصة فلن تعود أبدا، وفي المقابل شغل ذهنها بأرقام وتفاصيل واصطلاحات ليست مؤهلة تأهيلا طبيعيا متدرجا لاستيعابها وفهما، بله التعامل والتفاعل معها. إن مفهوم الزكاة - في حالتنا هذه ، وقس عليه باقي المفاهيم الأخرى - ، مفهوم عام يتكون من مفاهيم فرعية تتدرج من البسيط إلى المركب ينبغي بناؤها في ذهن المتعلم في شكل لولبي تصاعدي ، بدأ بالتعريف البسيط، ثم وضع الزكاة في إطار أركان الإسلام الخمس ، فمعرفة حكمها الشرعي ، ثم معرفة الحكمة من تشريعها ، ثم بسط الكلام عن مستحقيها ، فالانتقال إلى شروط وجوبها، ثم إعطاء بعض النماذج البسيطة من تطبيقاتها، فالحديث بعد ذلك بالتدريج عن أصنافها، إلى أن نصل إلى الاجتهادات الفقهية المعاصرة في ما يتعلق بطريقة حسابها في مختلف مجالات التملك والاستثمار ، وقد يستغرق بناء مفهوم الزكاة في ذهن المتعلمين- بهذه الحمولة المعرفية - أسلاك التعليم كلها من الابتدائي إلى العالي ، ولا يمكن بحال أن تقدم كل هذه المعلومات للتلاميذ دفعة واحدة ، دون مراعاة امتداد المفهوم في المنهاج الدراسي ككل ، عبر سنوات متعددة ،ودون مراعاة القدرات الذهنية والمعرفية والوجدانية للمتعلم ، ودون الأخذ بعين الاعتبار اهتمامات المتعلم وحاجاته الواقعية ، والفرص المتاحة أمامه للتمثل العملي لمكتسباته المعرفية، الم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خاطبوا الناس على قدر عقولهم أتحبون أن يكذب الله ورسوله )، وأولى محاذير ذلك خشية استثقال التلاميذ لمحتوى المادة وشعورهم بمفارقتها لاهتماماتهم وقضاياهم، حين تقدم إليهم كمادة علمية خام، ودون تحويلها إلى مادة تعليمية وفق المعايير التربوية والبيداغوجية، والطرق العلمية المقررة في نظريات التعلم وتدريس المفاهيم، وهكذا تظهر جسامة مسؤولية واضعي المناهج ، و تبدو مسؤولية المدرس في إبداع طرق ووسائل تنفيذ تلكم المناهج أكثر جسامة. إن المفاهيم تنمو وتتطور وتسقى في ذهن المتعلمين بماء الحكمة ، فكم من عالم ليس بحكيم، وكم من حكيم ليس إلا طالب علم، والله ( يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب).صدق الله العظيم . د خالد الصمدي