ما أكثر النهش في غزة، وكأنها صرّة الدنيا، وكأن سكانها قد جاءوا زائرين من كوكب المريخ! الكل يكتب عن غزة، وعن الانفلات الأمني الذي يجوس خلال الديار، وعن حكومة غزة التي لا تعرف ربنا، وتفرض الضرائب، وعن الناس الذين يطوون ليلهم بالجوع، وعن الدمار الذي حل بالبيوت بسبب الحصار الذي تفرضه حركة حماس على قطاع غزة، وعن القصف الصاروخي الذي تسببت فيه حركة حماس بعنادها السياسي، وعن تعدد الزوجات في غزة الذي لا تحاربه حكومة حماس، وعن صياح الديوك المبكر، وقرقرة الدجاج الذي ينزعج منه البعض، بينما حركة حماس تهتم بجمع الثروات. الكل يكتب عن ذاك الصباح الذي كان مغمساً بالعسل، فانكسر، وصار الكل يبكي على فخاره المتناثر. اتقوا الله في غزة، واطلبوا منها أمناً مثل الأمن الموجود في رام الله والقاهرة وعمان، بل أن سكان قطاع غزة يتلمسون الأمن في ديارهم أكثر من لندن ونيويورك، وأن المرء يبات مطمئناً، وآمناً على بيته، وماله، وأطفاله، وعلى زوجته، وسيارته، وبضاعته في الشوارع أكثر من باريس ونيودلهي. وإن كانت عين وأذن وقلب المواطن يكذبكم يا من تكذبون على الواقع، وأنتم تتحدثون عن الانفلات الأمني، وتضخمون بعض الحوادث الحياتية، فكيف سيصدقكم العقل وأنتم تتحدثون عن قضايا سياسية أخرى، فمن يكذب في الصغيرة الواضحة للعيان، تالله ليكذبن في المفاهيم والقيم والمبادئ، فاتقوا الله في غزة إن كنتم تعرفون. إن انهار نفق صارت حكومة غزة مسئولة عن إعطاء رخصة نفق دون فحص الأساسات، وإن أعدم عميل لإسرائيل؛ صار المذكور قضية حقوق الإنسان، وإن انفجر مولد كهربائي صارت حكومة غزة تاجرة المولدات، ومستوردة الطاقة الوحيد في الشرق الأوسط، وأنا أعلم، وغيري الذي ما زال منغمساً في العمل في شركة توزيع الكهرباء يعلم أن مشكلة الكهرباء في غزة لا علاقة لحكومة غزة فيها، وهي قائمة قبل أن تحمل حركة حماس، وتلد حكومة غزة، وأنا أعلم وغيري يعلم أن التجارة حرة في غزة، والتجار يستوردون البضائع، ويهربونها من الأنفاق، ويبيعونها للناس، وهي تخضع لنظام العرض والطلب، وكل ما تقوم فيه الحكومة هو فرض نسبة ضئيلة من الضرائب، لا ترتقي إلى النسبة التي تفرضها حكومة رام الله، فلماذا يصير مذاق الضريبة في رام الله عذباً، بينما مذاق الضريبة ذاته في غزة حامضاً، لتضرس له أسنان من يتمسح في أذيال نفقات رام الله؟. غزة بخير، وتنام مطمئنة ملء جفونها، ولا يزعجها إلا الحصار، وأطماع اليهود في أرض العرب، وطنين حمّالة الحطب، التي ينفق عليها أبو لهب. وكم كان مبدعاً الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي في احدث قصائده، وهو يقول: يا أهل غزة، ما عليكم بعدها والله، لولاكم، لما بقيتْ سماءٌ ما تظلُّ العالمين