الحداثة، التحديث، الحداثي... لقد فقد هذا القاموس / المصطلح دلالته الحقيقية عندما تداولته دول لا علاقة لها بالتحديث أو الحداثة، تريد فقط أن تفسر هذا المصطلح وتفهمه حسب هواها وان توظفه توظيفا أيديولوجيا خصوصا عندما يتعلق الأمر بتعارض مصالحها مع أيديولوجيا حزب معين أو فكر معين... قبل أن تكون الدولة حداثية يجب أن تكون لها حكومة تقدمية وديمقراطية تحترم حرية المواطن وتصون حقوقه وان تفرز لنا المواطن الحديث كفرد حر ومسؤول اجتماعيا وسياسيا على غرار المجتمعات الحداثية وان يكون تسييرها لشؤون البلاد والعباد قائما على أسس علمية وعقلانية وان تشجع العلم والعلماء والبحث العلمي لان الحداثة تناقض الجهل والتسيير العشوائي كما تناقض سياسة القمع والتضييق على الحريات ومصادرة الرأي والفكر والتجسس على المواطن وأهانته واحتقاره والطعن في عرضه وابتزازه. إن الحداثة ليست كلمة نرددها وتَقْصِفَُنا بها وسائل الإعلام كلما سنحت لها الفرصة بذلك، إنما هي ممارسة يومية على ارض الواقع وفي جميع مجالات الحياة بل هي ثقافة تسري في شرايين المجتمع. هي تربية تلقن مبادؤها عن طريق الممارسات اليومية التي تنهجها السلطة الحاكمة في أي بلد... ولا حداثة بدون عقلنة وفردانية وحرية... - إن المجتمع الذي تبلغ فيه نسبة الأمية 70% لا يمكن أن يكون مجتمعا حداثيا. - إن المجتمع الذي يحصي على المواطن أنفاسه لا يمكن أن يكون مجتمعا حداثيا. - ان المجتمع الذي لا يهتم بالعلماء الباحثين ولا يقيم لهم وزنا والذين تضطرهم الظروف السيئة إلى الهجرة إلى البلدان الحداثية التي تحتفي بهم وتحتضنهم وتهيئ لهم الظروف الملائمة للخلق والابتكار.... لا يمكن أن يكون مجتمعا حداثيا. إن حرية الفرد واعني بها دائما الفردانية الحرة المسؤولة اجتماعيا وسياسيا لم تتحقق بعد في البلدان العربية وان النظام الديموقراطي الحداثي كفلسفة وكمبادئ وقوانين وأعراف تؤسس علاقات اجتماعية وسياسية لا وجود له في هذه المجتمعات كذلك. فالديمقراطية ليست مجرد شعار للاستهلاك أو نموج جاهز للتطبيق، بقدر ما هو انخراط في أتون التجربة التاريخية والاجتماعية أو في ممارسات سياسية يتم فيها إبداع الديمقراطية أو اغناء مفهومها على حد تعبير احد الباحثين المغاربة الشباب... إذا فلا حداثة بدون حرية فردية + عقلنة. فمتى تحقق في مجتمعنا هذا الثالوث، الفرد + الحرية + العقل فسنعرف طريقنا إلى الحداثة والى بناء مجتمع حداثي، ديموقراطي وحر. وما دمنا نعيش في البلدان العربية مظاهر القِدامة والتقليد والقمع والتضييق على الحريات ومصادرة الرأي الذي يفرد خارج السرب فالطريق إلى الحداثة يبدو مسدودا، بل ومستحيلا. قرأت مقالا نشر بجريدة "المساء" عدد 1087 تحت عنوان"قمع عربي عابر للقارات" لعبد الباري عطوان، تعرض فيه الحديث عن الحكومات العربية وعن الاجتماعات السنوية لوزراء داخليتها التي تعقد بإحدى العواصم العربية، موضحا الهدف من هذه اللقاءات والاجتماعات والتي تتخذ دائما قضية الإرهاب والمس بأمن الدولة، والإساءة إلى المقدسات كذريعة لقمع حرية الفرد، والتجسس عليه، وتغييب حقوقه بل والاعتداء عليه، حيث تصبح الدولة وأجهزتها الاستخباراتية فوق القانون ما دام القضاء في الدولة العربية هو قضاء منحاز وغير مستقل فيه الخصم والحكم ومدام الفصل الكامل بين السلطات لم يتم بعد وهو موضوع نقاش لعدة عقود... فهم يجتمعون من اجل الاتفاق على المواطن العربي المغلوب على أمره وما دام هذا المواطن هو الهدف والضحية وحرياته وحقوقه، هي المستهدفة فلا مجال للاختلاف فيها بينهم، وهذه الاجتماعات تسعى جاهدة لنسيان جميع الخلافات السياسية والعقائدية والحدودية لتتفرغ للمواطن العربي تراقبه وتتجسس عليه وتطارده.... إن الفكر القِدامي الرجعي والذي يناقض تماما الفكر الحداثي التقدمي والتنويري لا زال يسيطر ويهيمن على عقلية الحكومات العربية وإن لاحت في الأفق بوادر أمل تنبئ بانهزام هذا الفكر القِدامي الرجعي والذي تنبأ بها شاعر حمل هموم أمته ردحا من المزمن: انهي لكم، يا أصدقائي ، اللغة القديمة. والكتب القديمة انعي لكم.... كلامنا المثقوب كالأحذية المثقوبة ومفردات العهر والهجاء والشتيمة انعي لكم... انعي لكم... نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة