يتخيل الشاعر ما تخيل أن الآخرين قد يتخيلونه، فيكتب شعراً مكتوياً بنار الألم الذي اكتوت فيه من فقدت ابنها، فحملت حزنها في سلة فوق رأسها، وراحت تلتقط على طول رصيف الذاكرة وجعاً، وتملأ بمذاق الملح ما اتسع من مسافة بين الدمعة والشهقة، وبين الانتظار والاحتضار.إنها تقتحم كثافة الحزن الفاصلة بين زغرودة الأم فرحاً لزفاف ابنها على عروسة من الإنس، وحقيقة زغرودة الأم وهي تزف ابنها شهيداً إلى الحور العين، وقدّر الشاعر أن الحشرجة بين الزغرودتين لا ينتفض لها قلب الساهرين في الفرح، ولا يعبر تلال الحزن فيها أولئك المنفضّون عند انفضاض الموسم، ولا يتوه في صحاري الوجوم والصبر من حولها أولئك الذين جاءوا واكتفوا بقراءة البيانات السياسية، ولم تتحرق عيونهم فوق رمال التحسر المتحركة، وهم يعلقون شعاراتهم، ويمضون في اليوم الثالث على عجل. تحتضن الأم صورة ابنها وتبكي، وحيدة، وتتساءل بينها وبين نفسها؛ أين هو الفرح الذي تحدثت عنه مكبرات الصوت؟ أين هو حفل الزفاف؟ لقد تطاير جبل الحنان كالعهن المنفوش قبل أن يحطًّ على صدرها متسائلاً: أين البشرى في الموت؟ ولما تزل تصرخ مكبرات الصوت، وتردد من بعيد: نزف إليكم بشرى استشهاد، وقبل أن تكتمل الحروف يتساقط صدى الصوت جمراً ملتهباً على القلب، وكأنها تعلم أن البشارة التي ترددها مكبرات الصوت، وأن الاسم الذي يكررونه هو اسم ابنها، ليقول الشاعر محمود درويش: قالتْ الأمُّ: في بادئ الأمرِ لمْ أفهمُ الأمرَ، قالوا: تزوج منذ قليلٍ، فزغردّتُ، ثم رقصتُ وغنيّتُ حتى الهزيعِ الأخيرِ من الليلِ، حيثُ مضى الساهرون ولم تبقْ إلا سلالُ البنفسجِ حولي. تساءلتُ: أين العروسانِ؟ قيلَ: هنالك فوقَ السماءِ ملاكانِ يستكملان طقوسَ الزواجِ، فزغْردْتُ، ثمَ رقصتُ، وغنيتُ حتى أُصِبتُ بداءِ الشَّللْ. فمتى ينتهي، يا حبيبيَ، شهرُ العَسَلْ؟ إنه سؤال امرأة ملهوفة تفتش عن قلبها الممزق، وتلملم عن باب بيتها ما تهدول من حزن. يأبى الحزن أن ينسل من الذاكرة رغم الاستعداد النفسي لدى معظم نساء فلسطين لتقبل الخبر، إلا أن بعضهن لا تتمتع بصلابة أم الشهيد محمد فتحي، التي ودعت ابنها إلى الشهادة، وانتظرته، فعاد مستشهداً، فبكت دمعتين ووردة، ولم تنزو في ثياب الحداد، فهنالك من الأمهات من لا يحتملن، وينخلع قلبهن من موضعه، قبل أن يستوعبن فاجعة الفقد، كي ترقص على مهلٍ، وهو يُزفُّ أمامها عريساً؟. وتغني له بكلمات أغنية لشاعر لا أعرفه، يقول: أشوفك يما في رفاقك وأتخيّلك، آه، وأتخيّلك بالعين يا دمع العين على غيابك سايل، آه، سايل على الخدين إنها إرادة الحياة، ولا خيار للشعب الفلسطيني إلا أن يواصل مشواره، وأن يكظم أسراره، ويطوي ملفات حنينه للحياة وهو يعبر بحر الكراهية العميق المحفور بين عدوين متناحرين، فمن لم يحترق بنار الغاصبين سيكتوي بجمر المحتلين، وسينتصر في النهاية من لا يضجرُ، ومن لا يملُّ عض الأصابع، لأن هذا الحصار القائم سيمتد إلى أن يصفع دم القتيل وجه القاتل، وتطارد النسائم البريئة الأنفاسَ الحاقدة. ليكمل محمود درويش: سيمتد هذا الحصارُ إلى أن يحسَّ المُحَاصِرُ، مثل المُحَاصَرِ أن الضَجرْ صفةٌ من صفاتِ البشرْ.