خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    المصادقة على تعيينات جديدة في مناصب عليا    الحكومة توقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    وفاة ضابطين في حادث تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    رصد للمرة الأخيرة بالمغرب.. دراسة تؤكد انقراض طائر الكروان رفيع المنقار    الحكومة تصادق على مشروع قانون يتعلق بحماية التراث    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوة الحوارِ الثّقافيّ حولَ "صهيل" للشّاعر يحيى عطالله
نشر في السند يوم 28 - 02 - 2010


الجزء الأول:
في جاليري مركز تراث البادية عسفيا، أقام منتدى الحوار الثّقافيّ ندوةً تحت عنوان "صهيل الشّاعر يحيى عطالله"، وذلك يوم الخميس الموافق 25-2-2010، بحضور كوكبةٍ من الشّعراء والمثقّفين، مُستهِلاّ اللّقاء الشّاعر رشدي الماضي بكلمةٍ ترحيبيّةٍ بالحضور، وبضيفةِ المنتدى القاصّة "دينا سليم"، ومباركة بمناسبة عيد المولد النّبويّ الشّريف لدى المسلمين، وبداية الصّوم الأربعينيّ لدى المسيحيّين، ومباركة بباكورة أعمال الشاعر يحيى عطا الله، مستشهدًا بما قدّمتْهُ الأديبة راوية بربارة للكتاب:
"إنّه ينبئ ببدايةِ مسيرةٍ شعريّةٍ، ستجدُ لها مكانًا ومكانةً في شِعرنا المحلّيّ والعربيّ".
د. فهد أبو خضرة: القصائدُ تراوحُ بينَ الكلاسيكيّة والرّومانسيّة وامتداد لهما، يحاول الشّاعرُ أن يُعبّرَ عن ذاتِهِ كفردٍ، ومن ناحيةٍ أخرى كفرد من أفرادِ الأمّة العربيّة، فكثيرًا ما يتّخذُ ضميرَ الأمّة، فيتحدّث عن كثير من المشاكل السّياسيّةِ والوطنيّة، بما تواكبُ مِن أحداثٍ بشكل موفّق، وبأسلوبٍ خطابيّ مباشر يحاولُ قوْلَ الأشياء بوضوح، ويعنيهِ أن يصلَ صوتُهُ للمتلقّي وهذه سمةٌ أساسيّةٌ بالكلاسيكيّة، يصل للمعنى الّذي يريدُهُ، فهل هذا سيّء أم جيّد؟ لمصلحةِ الشّعر أم ضدّه؟ وكيف نُحدّدُ ماهيّة الشّعر؟ عند العرب الكلاسيكيّين الشّعرُ من جهةِ الشّكلِ والأسلوبِ هو كلامٌ موزونٌ ومُقفّى ويدلّ على معنى. أمّا الباحثون غير المتعصّبين للكلاسيكيّة فيقولون، الشّعرُ هو مِن صُنْع الكلماتِ وليس مِن صُنع الأفكار وإلاّ تحوّلَ إلى مقال، فهل حقًّا لو أخرجنا الوزنَ والقافيةَ مِن النّصّ صار الشّعرُ خطبةً سياسيّة؟ يقولُ الرّومانسيّون الإنجليز: الشّعرُ لا يمكنُ أن يخلو مِن الصّور الجماليّة، فهو أجملُ الكلام في أجمل نسق، أمّا الحداثيّون فيُركّزونَ على قضيّةِ الغموض، لأنّ الوضوحَ هو نثر يحاول اتّخاذ شكل الشّعر، أمّا الشّعر فهو إيحاءٌ لا يبدأ مِن التّحديد، فهل الشّعر العربيّ القديم في معظمِهِ يبدأ مِنَ التّحديدِ والكلام المنظوم ثمّ يتّجهُ باتّجاهِ الإيحاء؟ وماذا عن الشّاعر أبي تمّام مثلا؟ الشّعرُ فيه إيحاءٌ وغموض، وإيصالُه يتطلّبُ صورًا فنّيّةً جميلةً تحملُ إثراءً، لأنّ المتلقّي يكون حينئذ فعّالاً ومشاركًا، أمّا في "صهيل" فيغلبُ أن يكون دوْرُ المتلقّي سلبيًّا، يتلقّى وينفعلُ ولا يشاركُ في بناء النّصّ. وبالنّسبةِ للشّعر العربيّ ككلّ أتساءل: ما هو مستقبلُ الشّعر العربيّ؟ لا أظنُّهُ في طريقِهِ للعودةِ إلى القديم، إنّما هو متّجهٌ أكثر مع الحداثة، وأظنّهُ يحتاجُ إلى معادلةٍ تجمعُ بينَ القديم والحداثيّ، شرْطَ أن يستخدمَ الغموضَ الشّفّاف وليس الوضوحَ ولا الإبهام.
ناظم حسّون: "صهيل" الشّاعر يحيى عطا الله يرنُّ في سمْع الورى/
إنّ الفاحصَ المدقّقَ لن يضلَّ الطّريقَ إلى شخصيّةِ شاعرِنا، مِن خلالِ قصائدِهِ الّتي تجمعُ بينَ أصالةِ القديم وروعةِ الحديث، فطابعُ شخصيّتِهِ لا يُفارقُ أشعارَهُ، وشِعرُهُ يشفُّ عن شخصيّتِهِ الّتي تعتبرُ صدًى لحياتِهِ المتمرّدةِ، ولمشاعرِهِ الّتي انطلقتْ بها مختزناتُهُ الباطنيّةُ لواقع الحياةِ وشجونِها، وردّاتٍ لانفعالاتٍ عاشَها، وعبّرَ عنها بخصائصَ تثيرُ في القارئ عاطفةً وجدانيّة. لشعرِ يحيى عطا الله مجاهرةٌ واضحة، بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن الغموضِ والتّعتيم، وأسلوبُهُ يجنحُ إلى السّهولةِ واليُسر، فنراهُ عنيفًا أحيانًا، ورومانسيًّا أحيانًا أخرى، وهذه فضيلةُ التّناقضِ الّتي تُميّزُ الإنسانَ الحُرَّ والأصيل. فشاعرُنا متمكِّنٌ ومُلمٌّ جدًّا باللّغةِ التي أحبّها، مع إتقانٍ في الوزن ورنينٍ عذبٍ في القافية، وقد استطاعَ مِن خلال ثقافتِهِ وفِكرِهِ تطويعَ اللّغةِ لتأديةِ أغراض عديدة في معظم قصائدِهِ، ونجحَ في ذلك، فتعاملَ مع الفِكرة كما يشعرُ بها في داخلِهِ وسلوكِهِ، فوصلتْ للمتلقّي بنفسِ الإحساسِ الذي عايشَهُ، فانفردتْ قصائدُهُ بروعةٍ لا يدانيهِ فيها إلاّ القليلُ مِن شعراءِ هذه البلاد. وإذا نظرنا إلى عنوان الدّيوان "صهيل"، فما الذي يريدُ إيصالَهُ شاعرُنا للقارئ؟ الجوابُ صيحةٌ يسمعُها الورى، وقد جاءَ في نهايةِ القصيدة الّتي تحملُ عنوانَ الدّيوان.
"ما الشّعرُ إنْ لم يَسَتفِزَّ وما القصيدةُ يا تُرى/ إنْ لم تكنْ مثلَ الصّهيلِ يرنُّ في سمْعِ الوَرى"
الكتابُ الشعريُّ "صهيل" يحوي بين دفّتيْهِ 29 قصيدة، ويقعُ في 112 صفحة من الحجم المتوسّطِ، وكلُّ القصائدِ جاءتْ مؤرَّخةً بتاريخ كتابةِ القصيدة مع وجودِ تفاوتٍ زمنيٍّ بينَ تواريخ كتابةِ القصائد، والّتي امتدّتْ بينَ الأعوام 1986 حتى 2009. وعدا عن بعضِ القصائد، فيمكنُ تقسيمُ "صهيل" إلى قسمين: قصائد وطنيّة، وقصائد غزليّة. ورغم خوْض شاعرنا قصيدة النّثر إلاّ انّ شيئًا ما يشدُّها إلى التّفعيلة، حتّى وإن لم تستقم أحيانًا على بحر واحد، لكن الموسيقا انسابتْ بشكل فنّيّ تشدُّ القارئَ ليتماهى مع الصّور الشّعريّةِ بكلّ أحاسيسِهِ، فجاءتْ مخالفةً للنّظام الغالب على نماذج شاعرنا المألوفة، مثل "وجه الغريبة"، و"حبق ونعنعة"، و"الرّسالة"، و"دعابةٌ جريئة"، و"دعيني"، ونرى أنّ جميعَها كُتبتْ حديثًا في الأعوام 2008 و2009، ونشهدُ هناك تحوّلاً ما، مِن الشّعرِ العموديّ لصالح الشّعر الحديث.
يؤمنُ عددٌ مِن النّقّادِ أنّ أهمّيّةَ شاعرٍ ما، تكمنُ في قدرةِ شِعرِهِ على تصوير عصرِهِ، وعلى تصويرِ نفسِهِ كإنسانٍ وكائنٍ حيٍّ، يشاهدُ ويتعذّبُ ويتألّمُ ويُحبُّ، ويثورُ ويغضبُ ويَبكي ويَضحكُ، وقصائدُ "صهيل" تؤكّدُ مشاركةَ وانخراطَ شاعرِنا في واقع عصرِهِ الاجتماعيِّ والسّياسيِّ، فيعلو صهيلُ فرسِهِ الجامحِ بحرارةٍ كحرارةِ البارود، حاملاً كلّ ما تزدحمُ به هذه البقعةُ مِن قلق وتوتّر، فاتّسمتْ تجربتُهُ بروح التّمرّد ليغوصَ في الأعماق، ويتحفَنا بنصوص مكثّفة مِن الشّعر والشّعور المفرَط في التّفاعل، مع الأحداث الموجعة للواقع السّياسيّ والاجتماعي المنخور مِن الدّاخل والخارج، فجاءتْ قصائدُهُ مواجهة ضدّ التّيّار، وقفَ فيها موقفًا صادقًا وشجاعًا في التّعبير عن مظاهر التّمييز والتّفرقة ضدّ أبناءِ شعبهِ ووطنه، وقد أنهكَتْهُ محنةُ الاستعمار بواقعها المؤلم، لتعلو صيحتُهُ مدوّيةً في وجهِ الجور والوحشيّةِ والاستبدادِ مِن قِبلِ النّظُم السّياسيّةِ والاجتماعيّة، ليُطلقَ عنانَ فرسِهِ الجامح ليستنهضَ الهمم، ويرفعَ لواءَ التّمرّد والعصيان في وجهِ الغاشم بصورةِ التّعبيرِ المباشر، ورغمَ أنّ هذا الأسلوبَ يخلو مِن الإثارةِ والغموض، إلاّ أنّه بحماسِهِ بالغ النّزْفِ نسَجَ بحروفٍ من نار ونورٍ أبهى القصائد، كقولِهِ في قصيدة: "ستون" ص8
لا تفرحوا / وأمامكم كلّ الوثائق/ فلتنظروا ولتسمعوا/ ولتقرؤوا غضبَ الجريح
تقبّلوا ألمَ الحقائق/ مَن ليس يُفهمه الكلام/ فسوف تُفهمه البنادق
قليلاً ما نجد شاعرًا بهذه الجراءة، يتحدّى السّلطةَ التي تتجاهلُ كلّ المبادئ والقيم الإنسانيّة، فجاءَ ليثأرَ لكرامةِ عروبتِهِ المغتصَبة، وهو يدري أنّ الحرّيّةَ لن تُؤخذَ بغير الدّم والسّلاح، فيَصِلُ به الحالُ في بعض القصائد أن يتعالى صوتُهُ، ليصلَ درجة الصّراخ الذي يستثيرُ التّأمّلَ والتّفكيرَ في الواقع الكئيب. وفي قصيدةِ "قفا نبكِ" نجدُ النّقدَ الشّعريّ في تساؤل شاعرنا عن القيم الإنسانيّةِ والكرامة، تمزّقُ الأقنعةَ الزّائفةَ عن وجوهِ الحكّام العرب، فصوّرَ لوعتَهُ ورسمَ صورةً جريئةً للحياة والصّراع في المجتمع العربيّ البائس، فيقول ص 13
"عربٌ بحجمِ شعارِهم/ عربٌ بوزنِ نعالِهِم/ عربٌ بعرضِ عباءةٍ/ وبِطولِ عشر لسانِهم/ أينَ الكرامة يا ترى؟!"
وهنا تحضرُني صرخة الشّاعر(مظفّر النوّاب): "القدسُ عروسُ عروبتِكم/ فلماذا أدخلتم كلَّ زناةِ اللّيل إلى حجرتِها؟ ووقفتم تستمعونَ وراءَ الباب لصرخاتِ بكارتِها/ وسحبتم كلَّ خناجركم/ وتنافختم شرفًا/ وصرختم فيها أن تسكتَ صونًا للعِرض/ فما أشرفكم / أولاد القحبة هل تسكتُ مغتصَبَة؟"
و تعلو صرخة يحيى عطاالله في ص 17
القدسُ عاصمتي أنا/ لكن معراج النّبيِّ لكلّنا/ الله أكبر يا مواجعَ أمّتي/ النّصرُ نصرُكِ/ والشّهادة لي أنا
كثيرًا ما تكونُ حياةُ الشّاعر متحدّيةً لواقعٍ أو موقفٍ ما، ففي هذا الخطابِ الشّعريّ يتحوّلُ مِن رقيقٍ إلى نسرٍ كاسح، يُخاطبُ قلوبَ جيلٍ بكاملِهِ بعباراتٍ غاضبة، ويَحثُّهُ على الانتقام مِن الغاصبِ واسترجاع الفردوس المفقود (القدس)، فهذا الارتباط والتّعلّقُ بالوطن جعلَ شاعرَنا يطلبُ الشّهادة، ويهدي النّصرَ لشعبِهِ الذي أحبّهُ مِن كلّ عروق القلب.
القسمُ الثّاني مِن الكتابِ ينحصرُ في قصائد الغزل، تتخلّلهُ الصّورُ المجرّدةُ والحسّيّة، وهو يخاطب الحبيبة، ويتحدّثُ عن ذاته بأشجانها المتمرّدة بنبرة حماسيّة، تفيضُ بعفويّةِ إحساسٍ يعبقُ بالمشاعر العميقة، فتثيرُ في القارئ بهجةً ودهشة بصورٍ أخّاذة، ومشاعر دافئة وفطرة صادقة، كيف لا وشاعرُنا عاشقٌ وثائرٌ، سكبَ حِبرَهُ العبقَ فأروى "الصّهيل" برحيقِ الكلام العذب الصّافي، سواءً في قصائدِهِ الغزليّةِ أو الوطنيّة. في قصيدة "أنا"
هذا أنا/ آتي إليك بما أنا/ وكما أنا/ لا آخر لي في الحياة/ وليس لي بعض هناك وبعضِيَ الثّاني هُنا
في هذا المطلع نُحسّ التّعبيرَ بالصّورة للإنسان واثق الخطوة، يبثّ مشاعرَهُ بصورة جميلة تحملُ ما تزخرُ به مِن مشاعرَ وأحاسيس صادقة، عندما يخاطبها ص.74 / مهما عذلت وغرر منك الكلام/ فلن أكون سوى أنا
وفي قصيدة "حتّى متى" ص.75 / حتّى متى سيظلّ وجهُك غائبًا/ وإلى متى تبقين عنّي مدبرة
هنا كما في كثير من الصّور يستعمل التّعبير المباشر في حديثه مع الحبيبة محاولاً إرضاءَها، ثمّ ينادي ص.59/ يا يوسف الحقني بمعجزة تُغيّرُ حَالتي
المباشرةُ والأسلوبُ النّثريّ الذي استعملهُ هنا، وعلى الرّغم مِن مهارتِهِ اللّفظيّة وقدرتِهِ على إحكام الأوزان، إلاّ أن التّعبيرَ يظلُّ واضحًا بعيدًا عن الإيماء والتّمويه، ونرى ذلك جليًّا أيضًا في قصيدة "دعيني"، و"اعشقيني"، وَهيَ من أجمل قصائد المجموعة، يفتحُ الشّاعر صدرَهُ للحبيبة ويُناجيها بنمطٍ موسيقيٍّ وفق إيقاعٍ ينبض بإحساس، وبصورٍ تستهويكَ بإغرائِها وكلماتها الرّومانسيّة السّاحرة، وتمنحُ عاشقها شعورًا بالخدر ص75
جرعةٌ أخرى وأثملُ/ فاعشقيني مِن شغافِ الرّوح ِ/ واحتلّي كياني/ إنّني ظمأُ الهوى/ وهواكِ للظّمآنِ جدولُ
لكن سرعانَ ما تنبعثُ هذه الصّورةُ الجميلةُ للحبيبةُ بصورةِ الوطن فيقول ص 78: ثوري/ واعشقيني ثائرًا/ أستلُّ سيفي مِن فمي/ أستلُّ عشقي مِن دمي/ أنا جارفٌ كالسّيلِ عشقي/ جامحٌ كالعاصفة/ هاتي صلاتَكِ/ واعشقيني عابدًا
شاعرُنا استعملَ المفرداتٍ: ثوري، أستلُّ سيفي، دمي، جارفٌ كالسّيل، جامحٌ كالعاصفة، وهذه المفرداتُ قليلاً ما تستعملُ عادةً في التّغزّل بالحبيبة، لكن صورة الحبيبة هنا حملتْ إيماءاتٍ فنّيّةً ورموزًا غنيّةً مشبعةً بالهمّ، انتفضتْ لتنبعثَ في صورة الوطن. وفي ص 100 يقول: فإنْ تتورّدْ خدودُكِ عندَ الهجيرِ/ لشمس انتظار طويل/ فنسمةُ حبّي عند البحار ستأتي إليكِ/ لتلفحَ خدَّكِ/ تمحو الهجيرَ/ وتبقي التّورّدَ في وجنتيْك
هذا هو يحيى عطا الله، وهذا هو الحبُّ المحتشم، إنّه يُغري الحبيبةَ، لكنّه لا يهتك ستر الحبّ. لشاعرِنا صورٌ ذهنيّةٌ مبتكرةٌ تزخرُ ببراعةِ المعاني، صاغها بإتقانٍ:
الجرحُ أكبرُ مِن دمي، لي أخوةٌ عدد الحصى، صلّيتُ في أقداسِ عشقي ، سليلَ هزيمةٍ، لكلّ ذئبٍ حصّةٌ في لحمِكم، أقصيتِ غيمكِ عن سماءِ مواسمي، جرعةٌ أخرى وأثملُ، أدمنتكَ حتّى أدمنتَ شفاهي.
وفي النّهاية، لا بدّ مِن كلمةِ تقدير لمقدّمة الدّيوان الكاتبة راوية بربارة، التي أثنتْ وبكلماتٍ شاعريّةٍ على شعر يحيى عطا الله، ووصفته بأنّه يهزُّ بعضَ الثّوابتِ وبعضَ المفاهيم الملتصقةِ بالأذهان، ويُراوح بينَ عموديّةٍ تقليديّةٍ وحداثةٍ لها ما بعدها. هذا "الصّهيلُ" كان كافيًا لإشباع فضولي، فكلُّ التّقدير لشاعرنا الموهوب يحيى عطا الله، وإلى المزيدِ من التّألّقِ والإبداع.
د.بطرس دلة: الشّعرُ ديوانُ العربِ ومبعثُ الطّرب، لأنّهُ يدخلُ شغافَ القلوب فيشبقُها رقّةً وإحساسًا ومتعةً، خاصّة عندما تنسجمُ كلماتُ الشّاعر في نشيدٍ سماويٍّ تطربُ له الملائكة، ويهتزُّ الوجدانُ إذا ما رنّ في مسامع الورى، كما يقولُ شاعرُنا في ديوانه على الغلاف الأخير:
ما الشّعرُ إن لم يستفزَّ وما القصيدةُ يا ترى/ إن لم تكنْ مثلَ الصّهيل يرنُّ في سمْع الورى
هذا الدّيوانُ الصّغيرُ حجمًا والكبيرُ نوعًا هو انعكاسٌ لصهيلِ فارس مِن فرسان الكلمة، فارسٌ في قوْلِ الشّعر وفارسٌ حقيقيٌّ في حياتِهِ اليوميّة، لذلك عندما يتحدّث الى "ابن العتاق" مناجيًا إيّاه، فإنّه يقصدُ حصانَهُ المدلّلَ الّذي يمتطي صهوتَهُ يوميًّا، ليطيرَ به إلى ربوع "يركا" والطّبيعةِ الخلاّبة المحيطةِ بهذا البلد، والمشرفةِ على المنطقة كلّها مِن علٍ حتّى البحر المتوسط، في شطحاتٍ يجدُ فيها فارسُنا متعةً ما بعْدَها متعة، لأنّ أعزّ مكان في الدّنى سَرجٌ سابحٌ، وهو إذ يعتزّ بالكتاب فإنّه يعرفُ جيّدًا أنّ خيرَ جليس في الزّمان كتاب، مِن هنا ومِن على صهوة الجوادِ جاءتْ حروفُ هذا الكتاب، كلعلعةِ البرق وحِمم البراكين وهزيم الرّعدِ وهديرِ البحر، وحتمًا صفير الأعاصير وزئير الأسود والنّمور، ولكنّه إلى جانب هذا الصّخب الهائل نجدُ فيه قلبًا رقيقًا، يُصلّي في محرابِ الحُبّ وفي حقول وهضابِ الوطن، فيهزجُ مع العصافير على كلّ فنن، ويهمسُ حينًا كما توشوشُ زنبقةٌ صغيرةٌ جارتَها، ويرفعُ يدَهُ في تحيّةٍ تشبهُ تحيّةَ السّحابِ للتّراب، فيرويهِ مِن عذْبِ مائِهِ ويبعثُ الحياةَ في البذور، كي تنبتَ فيأتي الرّبيعُ مُهلهِلاً ضاحكًا.
في صريرِ الكلمةِ وتوتّرِ أوتارِهِ تسيلُ روحُهُ عذوبةً وشعرًا رائعًا، ونغمًا فيهِ الكثير مِن الرّجولة، ولونًا قل هو لون مِن ألوان الفراديس، ليفيضَ الكلامُ مع أوزان الخليل وبحورِهِ متدفّقًا بعذوبةٍ خاصّة، لأنّ شاعرَنا إنسانٌ كبيرٌ ينسجمُ مع اللّحنِ وروعةِ الفنّ بكلّ ما تحملُهُ هذه الكلمةُ مِن معانِ، ولمّا كانَ حصانُه "ابن العتاق"، فمعنى ذلك أنّهُ حصانٌ أصيلٌ، وهو يؤكّدُ ذلك في شهادةِ الانتماءِ إلى عائلةِ الأصالةِ للخيول العربيّةِ الشّهيرة في العالم كلّهِ، ومع أنّهُ لم يذكر اسمَ حصانِهِ ولا حتّى مرّة واحدة طوالَ ديوانِه، إلاّ أنّه يشعرُ بشيءٍ كبيرٍ مِن الاعتزاز والحماس حيث يقول ص 48:لا فارس غيري اعتلاك مهلهلا / ومرتّلاً ألحانَ بادية جديدة
أنا يا حصاني ما اقتنيتُكَ مترفًا/ بل مسرفًا في عشق رنّات الصّهيل
يتغزّلُ بصهيلِ حصانِهِ وبهمهمتِهِ، أي ضبْحِهِ الّذي يرنّ في أذنيْهِ، فيشعرُ أنّه سيظلُّ في علياءِ متْنِهِ فارسًا بالرّغم مِن نزق الشّكيمة؛ أي عندما يحرنُ الجوادُ فلا يُطيعُ صاحبَه.
الطّابعُ الوطنيُّ لقصائدِ القسم الأوّل مِن الدّيوان:
لم يقعْ اختيار القصائد الاولى صدفة، بل اختارَها لتُغطّي حوالي ثلثَ مساحة الدّيوان مِن الشّعر الحماسيّ الوطنيّ، والثّائر على أوضاع الأمّة العربيّةِ وعلى أدوارِ المُلوكِ والرّؤساءِ العرب المُتخاذِلينَ إزاءَ سياسةِ المُحتلّ، وحضارةِ العولمةِ الّتي تتّهمُ حضارتَنا العربيّةَ الإسلاميّةَ بأنّها حضارةُ عنفٍ وإرهاب، خاصّةً بعْدَ سقوطِ البُرجيْن الشّهيريْن؛ أي بورصة نيويورك بأيدي طيّارين مسلمين، درّبَهم وموّلَ نشاطَهم الثّائر أسامة بن لادن، والّذي تبحثُ عنه أمريكا بطائراتِها وشبكاتِ تجَسُّسِها منذ تسع سنواتٍ ولا تجدُهُ.
ولا ينسى المُحتلّ الإسرائيليّ لأرض الوطن، حيثُ مرّ على نكْبتِنا أكثرّ مِن ستّين عامًا، وتمّ تشريدُ القسم الأكبر مِن الشّعب العربيّ الفلسطينيّ في خيام الذلّ والغربة، فباتتْ قضيّةُ اللاّجئينَ القضيّةَ الوحيدةَ الّتي خلقتْها حرب 1948، ولم تجد الأوساطُ الدّوليّةُ لها حلاًّ يُرضي الطّرفيْن، فتآمرتْ على أرض فلسطين وضمنتْ قيامَ الدّولةِ الإسرائيليّة، على حسابِ حقوق الشّعب الفلسطينيِّ في تقريرِ مصيرِهِ! فكلُّ قضايا اللاّجئينَ الّتي ثارتْ بينَ الحربيْن العالميّتيْن وجدتْ لها حلولاً، إلاّ قضيّة شعب فلسطين الّذي يشعرُ بالغربةِ حيثُما حلَّ، وما زالتْ سلطاتُ إسرائيل تقتلعُ الورْدَ مِن أحضانِ حدائقِنا، وما زالتْ أعيادُ المُحتلِّ الغاصِب فيها أفراح العواصف، فإذا ما عيّدَ هذا الغاصب كانَ العيدُ للإنسانِ العربيِّ احتراقًا لهُ لهيبُ المحرقة، لذلك نجدُ شاعرَنا يخرُجُ مِن لغةِ الشّرح الإخباريِّ إلى لغةِ التّهديدِ والوعيد، لأنّهُ إذا لم تفد المفاوضات، فإنّ البنادقَ كفيلةٌ بتفهيم المُحتلِّ كيفَ ولماذا يجب أن يَعدلَ عن سياستِهِ الغاشمة.
نحن لا نوافق الشّاعرَ فيما خلُصَ إليهِ مِن ضرورةِ اللّجوءِ إلى السّلاح للتّوصّل إلى الحلّ المُرْضي، وذلك لأنّ مَن ليس له كيف يلجأ للسّلاح؟ ولا ننكرُ أنّ شاعرَنا يقولُ كلمتَهُ بجرأةٍ وصراحةٍ وبطولةٍ نادرة، وكأنّهُ يُعيدُ ما كان القائد جمال عبد النّاصر يؤكّدُهُ في معظم خطاباته، (إنّ ما أُخِذ بالقوّة لا يُستَرَدُّ إلاّ بالقوّة)، إلاّ أنّ هذا الفكرَ باتَ غيرَ مُجْدٍ إزاءَ الأمر الرّاهن، والواقع الّذي نعيشُهُ كعربٍ تحتَ ظلِّ السّلطةِ الإسرائيليّةِ الغاشمةِ والمغتصِبة، ناهيك عن أنّ لغةَ القوّةِ والحلول العسكريّةِ والاغتيالات باتتْ مِن مُخلّفاتِ الماضي الّذي لا تقبلُهُ مجتمعاتُ القرن العشرين، ولا الأوساطُ الدّوليّةُ ذات الوزن في كلّ صراع، هذا على الرّغم مِن أنّ هذه الأوساط تلجأ بنفسِها إلى قوّة السّلاح، كما حصل في كوريا وفيتنام وكمبوديا والعراق، والخطر الدّاهم الّذي يهدّدُ سوريا وإيران حاليًّا. إنّ اللّجوءَ إلى السّلاح والاحتكام لمنطق العنفِ والقوّةِ باتَ مُستنكَرًا ومَمجوجًا ومرفوضا، مِن قِبلِ جميع مُحبّي السّلام في العالم الأرحب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.