لقد ازداد والدي رحمه الله بمدينة الجديدة بدرب غلف سنة 1930 بالجديدة. كان ينتمي للطبقات الشعبية ،لم يلج في حياته مدرسة،ولكنه كان يمتاز بذاكرة قوية وبفراسة قل نظيرها لدرجة أنه كان حافظا لسور من القرآن الكريم،وكان يمتلك زخما من الأفكار السياسية والتاريخية للمغرب عموما ومدينة الجديدة خصوصا ،ذلك إن مجموعة من الإخوة المراسلين بالجديدة 24 لم يتمكنوا من الانصال به بمقر سكناه لإجراء حوار معه يتمحور حول ذاكرته المشحونة بصور وصفحات تعود احداثها أيام الاستعمار زبعد الاستقلال بسب شدة المرض الذي ألم به ولم يعد قادرا على سرد ما أشير إليه. أعتبره والدي شخصا عاديا كبقية الناس، وكبقية الذين توفوا في رحمة الله. لكن ما يحز في نفسي أن رجالات هذه المدينة الشرفاء قلما يذكرهم اصحاب المبادىء في اطارها الانساني، وهم الذين يصدق فيهم قول الله تعالى: ومن المومنينين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلول تبديلا .صدق الله العظيم. اشتغل في حياته كصياد بحري تقليدي، واشتغل بفندق مرحبا ، وبالكازينو الذي اصبح أطلالا، ثم عاملا بمعما السردين بدرب غلف حيث كان منضويا في نقابة الاتحاد المغربي للشغل وكنت أرافقه يوم فاتح مايو لأتمتع بالاستعراضات الجميلة التي كانت تنظم أمام المسرح البلدي ،ثم كعون مصلحة بالمحافظة العقارية بالجديدة وتقاعد سنة 1990م.
لازلت أذكر في بداية الستينات وأنا لازلت طفلا صغيرا لم ألج المدرسة بعد ، كيف حضرت سيارة الشرطة بالحي بعد الظهيرة ليمتطيها بأمر من رجال الشرطة، وقفت مشدوها رفقة اصدقاء الدرب ، ودب في نفسي هلع وخوف، لكن والدي دعاني ليقبلني وهو مبتسم منشرح السريرة، هادىء البال ، غير منزعج ولا مرتعب : قائلا لا تخف سوف أعود قريبا ..... تجمع العشرات من ساكنة الدرب نساء ورجالا واطفالا وانا حائر لم ادر كيف أجيب أصدقائي الذين وقفوا مشدوهين ،واجلنا إجراء مقابلة كرة القدم التي كنا شرعنا فيها...وفي المساء ولا زلت اذكر ان الفصل كان فصل شتاء والجو بارد ، كان عشاؤنا تلك الليلة : كسكسا من الذرة بالخضر وبدون لحم او دجاج، كانت قد أعدته جدتي من والدي رجمها الله، أخذت جدتي بتعاون مع والدتي قفة وضعت فيها صحنا من هذه الوجبة وبراد شاي ساخن وعلبا من السجائر الرخيصة واتجهنا صوب مخفر الشرطة المركزي ليلا ليستقبلنا عميد شرطة ،طرحت عليه جدتي السؤال المحير: ما سبب اعتقال ابني؟ لكنه لم يجب إلا انه والحقيقة تقال سمح لنا بالدخول داخل المعتقل للسلام على أبي ومده بتلك الوجبة فاثار انتباهنا انه برفقة مجموعة من الأشخاص كانوا في سنه حيث كانوا منهمكين في أداء صلاة العشاء جماعة، تعانقنا وشد من ازرنا، وكان الابتسامات والسكينة على محياهم...ودعناهم جميعا وانصرفنا ...لم تمر الا أزيد من عشرين يوما حتى فوجئنا باطلاق سراح أبي ورفاقه .. لم أتمكن من طرح السؤال لأبي لمعرفة سبب اعتقاله .........ومر السنون وعرفت انه كان رحمه الله منتميا لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي انشق عن حزب الاستقلال.. وانه كان ضحية بلاغات المخبرين وعلى رأسهم مقدم الحي كان يدعى: العمراني...وعرفت بعد ذلك أن أبي كان متحمسا لحزب الاتحاد وان عفوا كان قد أصدره المرحوم الحسن الثاني على كل المعتقلين والموقوفين لمجرد انتمائهم لهذا الحزب . ولازلت اذكر احدى الطرائف التي سمعتها على لسان أبي وأنا لازلت طفلا صغيرا: حينما كان والدي وزملاؤه يستجوبون من طرف رجال المخابرات والامن بمركز الشرطة، وعندما جاء دور والدي ناداه احد العمداء: اجي اذاك بوجلابة..انت أمي وما قاريش آش لاحك لهاد الحزب؟؟ وكان رد والدي : هذا جلباب افتخر به وهو من صنغ مغربي تقليدي وايس من صنع المستعنر الفرنسي وذيول الاستعمار ..وان هذا الحزب هو حزب شرع ومعترف به من طرف ابن يوسف ..اي محمد الخامس رحمه الله كما ن لي الشرف للانماء اليه. تفاجأ العميد لهذا الجواب السريع وعلق عليه قائلا: والله انني اقف لكم جميعا احتراما واجلالا فانتم فعلا رجال شرفاء تحملون رسالة سامية للوطن والشعب... في بداية التمانينات واثناء الانتخابات الرلمانية والجماعية....لم يعد ابي منشغلا بالسياسة لكنه كان يتعاطف مع المرشحين المنتمين للاتحاد الاشتراكي وكان يحضر المهرجانات الخطابية والحماسية امام الملاح وكان يحضرها اقطاب الاتحاد انذاك امثال عبد الرحيم بوعبيد واليازغي والحبابي والقرشاوي.. وكان رفيق عمر والدي (أبا ادجيوجة) رحمه الله وعدد كثير لم أعد أتذكر اسماءهم... وخلال هذه الحملة كان النرحوم الطاهر المصمودي يعقد تجمعاته بدرب غلف وكان مرشحا باسم حزب الدستور، وفي احدى تجمعاته كان يحملق في الحاضرين..فاثار انتباهه عدم حضور والدي في هذا التجمع...وخاطب في الجميع: لازال هذا التجمع ينقصه رجل مثل والدي الذي يرجع له الفضل في متابعة دراستي وكان يمدني بالمال لشراء لوازمي المدرسية ومصاريف العيش حتى حصلت على الدكتوراة بفرنسا وه (ابا سي محمد )..لذا ارجوكم ان تحضروه وانا مستعد لتلبية كل رغباته..وصل الخبر والدي وامتنع عن الحضور بل حتى لمصافحته باعتباره انضم لحزب كان ينعث بحزب _الكوكوت مينوت)........ ظل والدي وفيا لمبادئه واعتزل السياسة ..لكنه كان يجهر بالحق.ولايخاف لومة لائم حتى انه جلب عليه كره بعض الاشخاص السادجين الوصوليين..الخ رحم الله جميع اموات المسلمين، والحقنا بهم مومنين صادقين...وغفر لنا ولهم.....وعزاؤنا وعزاؤكم واحد......ولاحول ولا قوة الا بالله. توفي المرحوم بتاريخ 28/13/2014 بحي السعادة وصلي على روحه الطاهرة بعد صلاة العصر بمسجد ابراهيم الخليل ودفن جثمانه بمقبرة الرحمة بحضور اقربائه ومعارفه ومحبيه وإنا لله وإنا إليه راجعون.