أكاد لا أفهم لماذا كلما قامت انتفاضة أو ثورة شعبية , يعبر خلالها المستضعفون في الأرض عن الظلم والقهر وكل صور البؤس التي يعانون منها , إلا وظهرت أبواق تسوق للأسطوانة المشروخة القائلة بأن ما يحدث ويحصل , يحمل بصمات خارجية تتربص بالوطن , وتكن له ولشعبه الكراهية والعداء , ولا تريد له الاستقرار , وكأن الذين يسيرون شأن البلاد والعباد , في هذا البلد أو ذاك هم من يحبوننا , ويريدون لنا كل الخير , بدليل الرفاهية والازدهار والرخاء , وبحبوحة العيش التي نحن فيها11. أعتقد أن جدراننا متصدعة من الداخل , ولا سبيل لترميمها , إلا باقتلاع أوصال الورم الخبيث , فلا يوجد أخطر على الشعوب المظلومة , من العصابات التي تقودها نحو الدمار باسم الحفاظ على الاستقرار. لقد استطاع عدد كبير من الحكام العرب , أن يسوقوا منتوج الإرهاب والإسلامفوبيا إلى أمريكا وإسرائيل , وعدد من الدول الأوروبية , وراكموا به ثروات في حساباتهم الآمنة بسويسرا ودول أخرى , وتركوا شعوبهم ترزح تحت وابل الفقر والمذلة , ولا تفتح فمها إلا عند صانع الأسنان إن بقي فيها أسنان . فقد عمل النظام الفاسد في تونس ومصر, لسنوات طويلة على توظيف فزاعة الإرهاب والجماعات الإسلامية , وجعلها ورقته الرابحة , كلما صرخت في وجهه النخبة النظيفة من الأحرار والشرفاء , ممن أعدموا أو زج بهم في السجون . لكن الحق يعلو ولا يعلى عليه , وها هم شباب تونس ومصر يضربون لنا أروع مثال في النضال والكفاح من أجل الحرية , حين أرادوا الحياة , فقرروا لبنعلي ومبارك أن يرحلا. شين العابدين بن علي لم تدم غيبوبته طويلا , ثم رحل في غفلة من الشعب التونسي , وطار بالملايير . أما حسني براك عفوا مبارك , فقد ظل في عالم الغيبوبة , وكأنه في إقامة طويلة بشرم الشيخ بكل استعلاء وكبرياء فرعوني . وأمام ارتفاع سقف مطالب الشعب المصري , ورفضه للتفاوض بأي شكل من الأشكال مع رموز النظام الحاكم , طل الريس على الجماهير بخطاب بئيس لم أفهم منه شخصيا إلا أن سيادته مش عايز يطلع حتى يطلع معاه روح كل المصريين . وبكل غباء يريد مبارك أن يقنع الشعب بوجود أعداء خارجيين يتربصون بمصر , وهي نفس الأسطورة التي ظل يرددها الحكام المستبدون كلما ضبطتهم إرادة الشعب متلبسين , وكل عمل تخريبي أو إرهابي هو من صنعهم . إذا كان بالفعل هناك وجود أو دخل للأجنبي في معاناة الأمة , فمبارك هو من أدخل هذا الأجنبي , وأعطاه كل الصلاحيات , وخول له الاستفادة من عائدات المنتوج الوطني وخيراته , ونال ثمن ذالك بالملايير من الدولارات , ولم يفته إلا بيع أهرامات أم الدنيا . أما الذين ينامون في المقابر واللي يسكنو سبع في أوضه , واللي الفول دوخهم وداخ , على حد تعبير أحمد فؤاد نجم , فلم يكونوا يفقهون في السياسة حتى يمسح فيهم النظام الفاسد أيديه المتسخة .