في أكتوبر 1789 وأمام حشود المتظاهرين الذين تحلقوا حول القصر الملكي بفرنسا مطالبين بالخبز، قالت الملكة ماري أنطوانيت حسب روايات المؤرخين قولتها الشهيرة: «إذا لم يتوفر لهم الخبز فليأكلوا الحلوى، أو أعطوهم الحلوى (brioche)». ومنذ ذلك التاريخ والباحثون في التاريخ الفرنسي يتساءلون هل هذه القولة صدرت فعلاً عن الملكة أم نُسبت ظلما أو خطأ إليها؟ وإذا كانت قد صدرت فعلاً، فهل كان صدورها ناجما عن مشاعر احتقار وخبث واستفزاز للناس، أم أن القولة أوحى بها الجهل بالواقع والسذاجة، أي بمعنى من المعاني أن الملكة «لم تكن تعلم»!. وفي هذه الحالة الأخيرة، ستكون ماري أنطوانيت قدمت حياتها ثمنا لعدم علمها بما كان يجب أن تعلمه، وربما كانت ستغير سلوكها لو علمت. لقد تم إعدام الملكة المسكينة دون أن «تعلم»، أو بعد أن «علمت» في وقت متأخر، لم يعد ينفع معه «العلم». وفي يناير 2011، ألقى الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي خطابه الأخير قبل مغادرته البلد هارباً، بعد انتفاضة الشعب التونسي ضد نظام حكمه. هذا الخطاب اتسم بخاصيتين: الأولى هي استعراضه لبرنامج شامل للإصلاح، والثانية هي توجيه طلب ضمني إلى الشعب لكي يتفهم وضع رئيسه ويقبل عذره المبني على كونه راح ضحية تغليط ولم يكن «يعلم» بالكثير من الأشياء الحاصلة في تونس. بخصوص برنامج الإصلاح الذي ورد في الخطاب الأخير لزين العابدين بن علي، هناك عشرة عناصر في هذا البرنامج: 1 – الالتزام بإجراء تغيير عميق وشامل في البلاد، يكون متفاعلاً مع المطالب التي عبر عنها الشعب التونسي في انتفاضته المشهودة. 2 – تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في الأحداث التي عرفتها تونس والبحث في التجاوزات والوفيات الحاصلة، وتحديد مسؤولية كل الأطراف بدون استثناء. 3 – تخفيض أسعار المواد الأساسية من سكر وحليب وخبز...الخ. 4 – منح حرية كاملة للإعلام بمختلف وسائله وعدم غلق مواقع الإنترنيت، مع الإيصاء بالتزام جميع تلك الوسائل قواعد أخلاقيات الإعلام المعروفة عالمياً. 5 – تكوين لجنة مستقلة للنظر في ظواهر الفساد والرشوة، وتحديد المسؤوليات في إطار النزاهة والإنصاف. 6 – احترام حرية التعبير السياسي بما في ذلك حق التظاهر السلمي، على أساس التأطير الحضاري وإشعار ممثلي السلطات العمومية، وبدون تمييز بين المنظمات والأحزاب. 7 – دعم الديمقراطية وتفعيل التعددية و«صون الدستور» المقصود به ربما في هذا السياق، حماية المبادئ المتعلقة بحقوق وحريات المواطنين التونسيين الواردة بالدستور القائم. 8 – التعهد برفض مبدأ الرئاسة مدى الحياة، وبرفض المساس بشرط السن، وبالتالي عدم تجديد ترشيح بن علي لولاية جديدة في الانتخابات الرئاسية ل 2014. 9 – الوصول إلى موعد 2014 في إطار وفاق مدني فعلي وفي جو من الحوار وبمشاركة مختلف الأطراف الوطنية في المسؤوليات العامة. 10 – تشكيل لجنة وطنية تترأسها شخصية مستقلة تحظى لدى جميع الأطراف السياسية والاجتماعية بالمصداقية، وتكون مهمتها مراجعة القوانين والأنظمة الخاصة بالانتخابات والصحافة والجمعيات وغيرها من المجالات التي يسمح إصلاحها بمرور انتخابات 2014 في جو توافقي سليم. وتتكلف اللجنة باقتراح التصورات المرحلية اللازمة لذلك، وتعرض كل الأفكار الجديدة المطلوبة، بما في ذلك فصل الانتخابات الرئاسية عن الانتخابات التشريعية. تقديم هذا البرنامج كان يمكن أن يشكل منطلقاً لانتقال ديمقراطي حقيقي في تونس، إلا أن هذا التقديم جرى في الوقت السياسي الميت، وجاء متأخرا عن موعده، إذ لم يعد الناس يطلبون من الرئيس تغيير برنامجه أو سياسته، بل أصبحوا يطلبون تغيير الرئيس نفسه. أصبح التونسيون المنتفضون يعتبرون وجود بن علي عرقلة في وجه الإصلاح المنشود، ولم تعد لهم ثقة في إمكان وفائه بوعوده أو في إمكان حصول تقدم سياسي أو نهوض حقيقي جديد على يديه، وغدوا يرون فيه شخصاً لا تتوفر فيه أهلية الرئاسة ولا يستوفي شروط تولي قيادتهم وتدبير شؤونهم بالنيابة عنهم. وبخصوص تصريح الرئيس التونسي السابق بكون معاونيه أوقعوه في الغلط وقدموا له صورا للأشياء مخالفة للواقع، فإن الفكرة المذكورة قد تم التعبير عنها من خلال صيغة وردت في الخطاب الأخير على الشكل التالي: معاونو الرئيس الذين توعدهم بالمحاسبة والعقاب «غلَّطوه أحيانا بحجب الحقائق». وهذا يعني أن بن علي الذي كان يطالب ضمنا بفترة سماح إضافية، يحمل مساعديه الأقربين جزءاً أساسياً من المسؤولية لأنهم «غلَّطوه» وتسببوا له في حمل رؤية مزيفة وغير حقيقية عما يجري في البلاد. رغم أن ذلك كان يقع «أحيانا» وليس طول الوقت. وعملية التغليط كانت تتم من خلال حجب الحقائق، وبذلك فات الرئيس أن يتعرف على العديد من المشاكل وأن يطلع على «كل» مجريات الأمور، وما تمور به حياة التونسيين. من الناحية النظرية الخالصة، يحق لنا أن نتصور وقوع ذلك. لكن مسؤولية الرئيس تظل قائمة في جميع الأحوال. إذ من واجب كل رئيس دولة أن يتدبر أمر متابعة أوضاع شعبه، وهو مسؤول عن ذلك. ولا يمكن التعلل لاحقاً بأن المحيطين به لم يسمحوا له بحسن متابعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمواطنين. فما هي يا ترى «الحقائق» التي تم حجبها ومواراتها، فلم يدرك الرئيس تفاصيلها بشكل جيد، وكان ربما سيتصرف بطريقة مختلفة لو ألمَّ بها في الوقت المناسب. إنها طبعا ستكون مرتبطة بالأسباب والعوامل التي قادت إلى انتفاضة الشعب التونسي، ومعنى ذلك مثلاً أن الرئيس وهو يمسك بمقاليد التسيير: - لم يكن يعلم أثر غلاء الأسعار على معيشة المواطنين وانتشار مظاهر الفاقة والبؤس والإملاق لدى فئات واسعة منهم. - لم يكن يعرف حجم البطالة الموجودة بالبلد، واضطرار أصحاب الشهادات إلى امتهان بيع السلع في قارعة الطريق، وتعرضهم لتعسف ممثلي السلطات العمومية. - لم يكن يعلم بفساد أفراد عائلته والمقربين منه وما يباشرونه من نهب للأموال العمومية وتسلط واستغلال للنفوذ، أو لم يعلم بأن الشعب يعلم، وهذا ربما هو الأرجح!. - لم يكن يعلم بأن المواطنين يريدون الحرية، وأنهم ضاقوا ذرعاً بعمليات مصادرتها، وأنهم يرفضون سياسة القمع والكبت وإحصاء الأنفاس ويتوقون إلى ممارسة حقهم في التعبير والتنظيم وإنهاء الحجر والوصاية عليهم. - لم يكن يعلم بأن الناس ربما يتحفظون على النموذج التنموي المفروض عليهم والذي يشعرون بأنه لم يكن ثمرة اختيارهم الحر وإرادتهم المعبر عنها بطريقة سليمة لا تشوبها شائبة. - لم يكن يعلم بأن الشعب التونسي قادر على النزول إلى الشارع في إحدى أجمل الانتفاضات المعاصرة، وأن الإجهاز على هياكل التأطير وأدوات التنظيم والتضييق عليها واضطهادها لن يمنع الجماهير من التحرك والتعبئة والالتفاف حول شعار التغيير في تحد بطولي لآلة أمنية أذاقت الشعب الأمرين وخنقت أنفاسه واحتقرت ذكاءه واستهانت بعزيمته وقدراته. هناك وصفة معروفة لكي يعلم جميع رؤساء الدول ما يجب عليهم أن يعلموا، ولكي يتفادوا تمرد وعصيان الشعوب والاصطدام معها وحوادث الانتحار الاحتجاجي وإزهاق الأرواح. هذه الوصفة هي الديمقراطية. فحتى لو افترضنا حسن نية الحاكم وغيرته على مصير شعبه وسعادة مختلف طبقاته وابتعاده عن هاجس التفكير في مصالحه الخاصة وحمايتها وتنميتها وزهده في الحياة، فسيكون من غير المنطقي مع ذلك أن يختار لشعبه نموذجا تنموياً معيناً وبرنامجا اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا معينًا دون تفويض شعبي مشهود بصحته، ويباشر الإشراف الشخصي على تطبيق ذلك البرنامج ويعتبر أن ذلك هو ما يصلح لشعبه، ثم يشتكي بعد ذلك من غضب الشعب وسخط الشارع وانتفاضة الجماهير. [محمد الساسي] محمد الساسي إن الديمقراطية هي ألا يُساق الناس قسرًا إلى السعادة. فليس هناك نموذج تنموي وحيد أوحد وبرنامج وحيد أوحد، هو ذاك بالضبط الذي وقع عليه اختيار الحاكم. فالتعددية تعني أن المشكل الواحد من مشاكل التنمية والسياسة له أكثر من حل، والحسم في اختيار أنجع الحلول وأنسبها يعود للشعب بواسطة الانتخابات السليمة والنزيهة والحرة. ويمكن تغيير الحل واستبداله بحل آخر بواسطة الانتخابات أيضا. ليس هناك من سبيل لإقناع الناس بجدوى برنامج ما إلا بواسطة انتخابات ذات مصداقية. ولكي تكون الانتخابات كذلك، يجب أن تكون مفتوحة على مختلف الاحتمالات وألا تكون انتخابات «تأكيدية» تمنح الحاكم قسرًا وبلا أساس حر، تزكية له ولبرنامجه، ويكون قد حدد نتائجها مسبقًا وجعلها رغم أنفها تساير هواه ورؤاه وبقاءه حيث هو واحتكاره لحق توجيه دفة الأمور في أي اتجاه شاء وارتضى. فكيف يختار الحاكم أسلوب تأبيد وجوده على رأس الدولة بطريقة تعسفية ماسة بحقوق الآخرين ومخلة بشروط التنافس والتباري السلمي على السلطة، وكيف يختار أسلوب تأبيد برنامجه بطريقة تعسفية لا تطابق المعايير الديمقراطية، ثم يقول بعد ذلك إنه لم يكن يعلم باختلالات البرنامج المطبق وعيوبه والحجم الكبير لضحاياه وعدم تجاوب الناس معه. إنه حاد عن الطريق التي كان من شأنها أن تجعله «يعلم». وحين اختار طريقه الآخر، فإن ذلك يعني بكل بساطة، أنه في الأصل لم يكن «يريد أن يعلم». إن رئيس الدولة الذي يحكم ويقرر ويدير الشؤون العامة للبلاد والعباد، إذا كان يريد حقًا أن يعلم ما يجب عليه أن يعلم، فإن عليه منذ المنطلق أن يقبل بقاعدتي لعب أساسيتين: قاعدة الاستعداد للانسحاب ومغادرة الموقع والكرسي الوثير قبل وقوع ثورة أو انتفاضة. هذا الانسحاب متروك للإرادة الحرة للشعب، فالناس قد يَمَلُّون حضور الرئيس ويستثقلون وجوده على هرم السلطة. ولذا، يتوجب أن يكون جاهزًا لتقبل فكرة ترك مكانه لغيره بسلاسة وبدون مشاكل. لكن الرئيس بنعلي انطلق في الأصل من فكرة البقاء الأبدي في السلطة، لأنه الأصلح لشعبه، ولأن الناس ربما لن تمله أبدًا. فإذا ملَّه الناس لا قدَّر الله، فإنهم سيكونون مخطئين في ذلك وضحايا مؤامرة خارجية، وعليه فلا يجب مسايرتهم في هذا الخطأ الشنيع. قاعدة الاستعداد لتقبل أن تُدار شؤون البلاد وفق برنامج آخر غير برنامج الرئيس. قد يستطيع هذا الأخير إقناع الخارج بجودة مشاريعه وإنجازاته، وقد يتباهى الرئيس باستعراض أرقام ومؤشرات التحسن الحاصل على مختلف المستويات في بلاده، ولكن الأهم من كل ذلك أن يستطيع إقناع شعبه بصواب اختياراته وبرامجه. إن الشعب هو الذي يعاين بالملموس النتائج الفعلية والحقيقية لأي برنامج، حتى لا ينتهي الرئيس، بعد فوات الآوان، إلى اكتشاف «شعب آخر» موجود في القاع، لم يسبق له التعرف على ملامحه ولا فهم حاجاته الحقيقية. فحتى في البلدان التي تحترم الديمقراطية، يتعين دائما تعميق هذه الأخيرة، حتى تمثل مرآة مجلوة وناصعة تنعكس عليها بوضوح كامل هموم ومطامح وتطلعات مختلف الفئات الاجتماعية. كيف يقمع الرئيس الصحف ويغلق مواقع الإنترنيت ويمنع النقاش العام الحقيقي، ثم يقول بعد ذلك بأنه لم يكن يعرف «الحقيقة». فحرية تداول جميع القضايا هي التي تسمح باستجلاء الاختلالات وتحديد مواطن الضعف وكشف بؤر الفساد وفضح وتعيين قوى الظلم والاستغلال. وعندما لا تُطرح ملفات الفساد على طاولة النقاش العلني، فإنها تُتداول همسًا في المجالس، وتسري عبر مسالك التواصل الحميمي بين الناس، وقد تأخذ الوقائع في هذه الحالة حجمًا أكبر من الحقيقة. وعندما يُنَكِّلُ الرئيس بالمعارضين ويُلقي بهم في السجن، ويقصي الرأي الآخر والمقاربة الأخرى، فإنه يكون قد قرر تلقائيًا أن يحرم نفسه من وسائل معرفة عيوبه وخطاياه وخطايا بطانته. وعندما يراكم السيد الرئيس الثروات الشخصية مستفيدا من وضع امتيازي، ويهرب الأموال، ويحد من المنافسة، ويقبل بقيام اقتصاد ريعي، ويقيس جدوى الصفقات والمشاريع بمقياس تأثيرها على مصالحه الذاتية، ويسمح لعائلته وللمقربين منه بحصد منافع غير مشروعة، فلا نتصور أنه يجهل آثار ذلك على اقتصاد البلد ومستقبل التنمية. وعندما يقبل الرئيس أن يحيط به رجال دولة وقادة أجهزة ومدراء مؤسسات عامة، يغترفون من معين الريع والفساد، ويتحصنون ضد المحاسبة واللوم، بينما الرئيس هو الآخر يُحَصِّنُ نفسه ولا يقدم لهم المثال والقدوة الحسنة، فإن الادعاء بأنهم لم يجلوا أمامه صورة الأشياء، ولم يكشفوا له الحقائق المطمورة، يكون غير مفهوم. إذ من الطبيعي ألا يُقدم هؤلاء المعطيات التي لا تخدم مصالحهم. ومصلحتهم الكبرى هي في وجود الرئيس ونظام الرئيس، حتى ولو أدى وحده الثمن فيما بعد وأفلتوا هم بجلدهم. إن القادة الذين تُتاح لهم عبر فرص تاريخية معينة، شروط التحكم في كل شيء وامتلاك كل الحقوق، يجدون طعم الديمقراطية مُرَّا، لأنها تتطلب منهم القبول طوعا بمغادرة النعيم والتخلي عن نظام متعة لذيذ، ولكن الديمقراطية هي الدواء المقرر طبيًا لتجنب الحالات التي قد يصبح فيها رئيس الدولة «آخر من يعلم