في أوج ربيع الاحتجاجات الذي شهده العالم العربي سنة 2011 كان هناك اعتقاد بأن تحولا ثقافيا كبيرا في طريقه الى التبلور، خاصة أن الاحتجاجات لم تكن مصبوغة بلون سياسي معين، حيث كان الجميع يتحدث عن شارع تجاوز القوى السياسية ولم يعد راضيا عن استمراره في خدمة تطاحنات إيديولوجية لم تعد عليه بأي طائل، كان الكل يتحدث عن ولادة شارع في العالم العربي يبحث عن الكرامة ورفض الاستبداد والفساد، شارع يسعى إلى فرض شروط ثقافة الاختلاف والانتقال إلى آليات ديمقراطية في تدبير هذا الاختلاف وتنظيمه. في أوج ربيع الاحتجاجات لم يخرج مناصرو الأنظمة الاستبدادية للتظاهر دفاعا عن تلك الأنظمة بل تواروا إلى الخلف، رغم محاولات بعض الجهات التي سعت الى تأجيج التناقضات للاستفادة منها، في حين لم يحل أي اختلاف إيديولوجي أو تقوقع سياسي دون قيام المحتجين بالتظاهر جنبا الى جنب دون تمييز على مستوى المرجعيات، هل هي إسلامية أو ليبيرالية أو يسارية، كان مثل هذا السلوك حافزا على الاعتقاد بأن كل القوى التي عانت من أنظمة الاستبداد والفساد قد استوعبت الدرس ولم يعد هناك مجال للمزايدات باسم الإيديولوجية بشكل عام و باسم الدين بشكل خاص. ساد اعتقاد بأن المجتمعات العربية قد دخلت عهدا جديدا يتسم بالإصرار على صياغة عقد اجتماعي جديد تحدد فيه قواعد التساكن والتعايش بشكل واضح دون تمييز أو إقصاء، عقد اجتماعي جديد يتأسس على احترام الاختلاف وضمان حقوق الأقليات سياسية كانت أو دينية أو ثقافية أو اثنية، وبتعبير آخر عقد اجتماعي جديد يتأسس على الحرية باعتبارها قيمة لا تعلو عليها أي قيمة أخرى. قبل ربيع الاحتجاجات كانت مجموعة من الأنظمة العربية وبضغط من القوى الكبرى قد أعلنت احترامها لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، لا داعي للتذكير هنا بالحالة المغربية حيث تضمن دستور 1992 في ديباجته هذا المقتضى وهو نفسه الوارد في ديباجة دستور 13 شتنبر 1996، غير أن سلوك الأنظمة العربية في الممارسة كان يضع مثل هذا المقتضى محل استفهام، خاصة مع كثرة التحفظات التي كانت تبديها إزاء الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان بدعوى مراعاة الخصوصية، مما كان يفرغ مثل هذه الالتزامات من أي محتوى ذي ارتباط بما هو وارد في الوثيقة الدستورية. في أوج ربيع الاحتجاجات بدا أن مواقف مختلف القوى السياسية ترغب في القطع مع خطاب الخصوصية وتروم اعتماد خطاب جديد يركز على كونية حقوق الانسان وإقامة الدولة التي تحمي هذه الحقوق والتي لن تكون إلا دولة مدنية يصبح فيها الشعب هو مكمن السيادة و صاحب السلطة وأن الفيصل في حق ممارسة هذه الأخيرة يتمثل في الاحتكام الى صناديق الاقتراع. في أوج ربيع الاحتجاجات أعتقد الكثيرون أن الإيديولوجيا تفقد مواقعها بسرعة كبيرة لفائدة تدبير عقلاني للشأن العام من خلال التركيز على ضرورة تأسيس أنظمة تقوم أولا و أخيرا على الحكامة، وظهر خلال هذه المرحلة بأن خطاب قوى الاسلام السياسي كان أكثر وضوحا فيما يخص اعتماد الحداثة وبناء دولة القانون وفسر هذا الخطاب بكون الإسلاميين عانوا أكثر من غيرهم من التهميش والإقصاء، وبالتالي أصبحوا أكثر إيمانا بجدوى الديمقراطية لكونها هي التي تضمن لهم العديد من الحقوق لم يتمكنوا من نيلها في ظل أنظمة كانت تؤسس جزءا من مشروعيتها على الدين، وهناك من فسر تضخم الخطاب حول الديمقراطية والدولة المدنية من قراءة قوى الإسلام السياسي في العالم العربي لواقع التجربة التركية، حيث تمكن الإسلاميون من الوصول الى مراكز القرار السياسي بفضل الديمقراطية وفي إطار دولة تجعل من العلمانية أهم ثوابتها. منذ البداية كانت هناك تحفظات أبدتها القوى الليبيرالية والقوى اليسارية تجاه الخطاب الصادر عن قوى الإسلام السياسي، وكان هناك تباين في وجهات نظر الملاحظين والمتتبعين بين من يركز على الطابع التكتيكي أو الظرفي لهذا الخطاب، باعتبار أن قوى الاسلام السياسي مهووسة بحلم التمكين وبأن آخر لحظة في حياة الديمقراطية هي تلك التي ستوصل الإسلاميين الى مراكز القرار، لأنهم من موقعهم الجديد سيضعون حدا لكل الآليات ذات الصلة بالديمقراطية، وبين من يدعو الى احترام آليات الديمقراطية واحترام صناديق الاقتراع في حالة منحها الصدارة لقوى الاسلام السياسي وعدم التخوف المبالغ فيه من هيمنة الاسلاميين وإعادة إنتاجهم لأنظمة الاستبداد، مادام أن الشارع في العالم العربي قد تغير ولن يتردد مرة أخرى في الخروج للاحتجاج ووضع نهاية لأي قوى سياسية ترغب في مصادرة الحريات، والعصف بما تحقق من مكتسبات على المستويين السياسي والحقوقي. حققت قوى الإسلام السياسي نتائج ملفتة للنظر بعد إجراء استحقاقات انتخابية في العديد من الدول العربية، وكانت هناك مراهنة على قدرة الاسلاميين في تنزيل خطاباتهم على أرض الواقع وفي مقدمتها تأسيس سياساتهم على منطق الحكامة التدبيرية بدل تأصيل هذه السياسات انطلاقا من منطق مغرق في الالتباسات الايديولوجية كان من أهم تجلياته تضخيم الخطاب الهوياتي وتهميش خطاب تدبير معاش الناس من مأكل و ملبس ومشرب ومسكن كما كان يقول الامام الغزالي. بعد تصدر قوى الاسلام السياسي نتائج الاستحقاقات الانتخابية ووصولهم إلى مراكز القرار أدركوا قبل غيرهم أن ربيع الاحتجاجات الذي رفع عنهم الحيف لا يحمل من الثورة إلا اسمها، فظهر مفهوم الدولة العميقة لتبرير المقاومات التي يواجهها الاسلاميون وهم في السلطة، وفي لحظة من اللحظات أصبح من الصعب تمييز خطابهم عن خطاب المعارضة، وفي سياق تبلور خطاب الإسلاميين المعارض وهم من داخل السلطة أصبحت مخاوف القوى السياسية ذات المرجعية غير الإسلامية تحظى بالصدقية باعتبار أن هذا الخطاب المعارض للحكام الجدد ما هو إلا مقدمة من أجل إنهاء وجود معارضيهم والتحكم في مفاصل الدولة واستتباع كافة الأجهزة مدنية كانت أو عسكرية، بل إن ما زاد من هذه التخوفات هو الحملة الممنهجة التي يخوضها الإسلاميون وهم في مراكز القرار ضد وسائل الإعلام التي أصبحت تنعت في حالة عدم مسايرتها لطروحات قوى الإسلام السياسي بكونها مناهضة للتغيير أو إحدى أذرع الدولة العميقة. لا أحد يفهم حاليا كيف أن الاسلاميين الذين يديرون الشأن العام وفي اللحظة التي كان يرجى فيها أن يدفعوا بقوة في اتجاه إعطاء معنى للتعددية السياسية هم الذين يئيدون هذه التعددية في المهد بمطالبة معارضيهم بالتزام الصمت باعتبار أن الانتقادات الصادرة عنهم لا تعمل إلا على التشويش على التجربة الإسلاموية في الحكم. وجهت انتقادات عديدة لسلوك قوى الاسلام السياسي وبالمقابل وجهت انتقادات للقوى الليبيرالية واليسارية التي سرعان ما دخلت في صراع مع الشعب الذي ما فتئت تدعي أنها تمثله، في حين اعتبرت أن نتائج صناديق الاقتراع لا تعني شيئا في غياب منظومة قيم هي التي تضفي معنى على الخيار الديمقراطي، ولكن دون أن تبذل هذه القوى جهدا في طرح السؤال عمن المسؤول عن غياب منظومة القيم هذه هل الإسلاميون أم الأنظمة السابقة أم هذه القوى نفسها، التي تعرف بتاريخ طويل من وأد الممارسة الديمقراطية داخل تنظيماتها?. على نقيض الاعتقاد الذي ساد في أوج ربيع الاحتجاجات بكون الخلافات والتباينات الايديولوجية قد توارت الى الخلف لتترك مكانها للحكامة التدبيرية القادرة على تأمين حاجيات الناس في دنياهم، غرقت الساحة السياسية في وحل المتاهات الايديولوجية و انتعشت من جديد وبشكل قوي هذه المرة لغة التكفير والاستئصال.