منذ متى ونحن نسمع عن الرغبة المتنامية لدى المغاربة للانتقال بالبلد من مستوى التدبير المركزي لشؤونه إلى نظام الجهوية. ولا تخفى المزايا التي حققتها الأمم الحديثة التي اختارت هذا النهج، على اختلاف تجاربها وتنوع نُظمِها، التي وصلت بالبعض إلى حد الاتحاد في كيانات فدرالية، ولم تتجاوز لدى آخرين مستوى التسيير الذاتي للشؤون المحلية. وها هم جيراننا المُتَعَدِّدي الإثْنِيات المُخْتَلِفِي القوميات، منذ أن تَخَلوا عن أسلوب الحكم المركزي الموروث عن العهد الدكتاتوري، يتعاركون إلى اليوم حول أدق التفاصيل المتعلقة بتوزيع الاختصاصات بين المركز والجهات. وبرغم مرور عقود من الاستقرار الديموقراطي، ما زالت مخاطر انفلات الخيوط الرابطة بين عمود البلد الفقري ومُكَوِّناته الجهوية تُؤَرِّق مضاجع نُخَبِهم السياسية. وها هو البلد الذي يحتضن عاصمة القارة العجوز يَتَرَنَّح من حين إلى حين على شفى الانكسار شطرَيْن بفعل ازدواجية انتمائه القومي بين الفرنكفونية والفلامانية. وإذا كانت المُنْزَلقات لدى شعوب تلك البلدان لا تستدعي دَقّ نواقيس الخطر، باعتبار مستويات نهضتها، فالأمر مختلف بالنسبة لبلد حديث العهد بالاستعمار، وذي نِسَبٍ عالية من الفقر والأمية؛ لا سيما إن ظلت نُخَبُه السياسية والثقافية مُتَخَبِّطة، دون القدرة على صياغة تصور مُفِيد. وغَنِيّ عن البيان أن الانتقال من نظام حُكْمٍ مركزي إلى بديلٍ جهوي، ليس مجرد اختيار سياسي يتطلب مَوْقِفا من طرف زعماءَ وأحزاب. ولا يُخَالِجُني شك بأن الأمر في هذه الحالة لا يتعلق بصياغة نسقٍ نظري مُقنع، ولا باختلاق نموذج هجين، يَسْتَخْلص عناصرَ من هنا وخصائصَ من هناك، وقد اقتُلِعَتْ من سياقاتها الأصلية التي تَرَعْرَعَتْ بتُربة بلدان أخرى. بل والأمر أخطر من ذلك، إذ يتطلب إبداع نظام قابلٍ للتطور، الأنْسَب لحالتنا، مما يندرج ضمن الفعل الحضاري. وكم كان الاندهاش خلال ذاك الصيف من الزوبعة التي آثارها المُتَسَيِّسون والمُتَعَلمون في المدارس حول مشروع الجهوية، فانعقدت الندوات، واستفحلت النقاشات، وأُجْرِيَت الدراسات، وتَشَعَّبتْ الاقتراحات، وصُرِفَت الأموال والميزانيات، وكَثُرَ الأخذ والرّد، وتعددت النعوت: فهذه جهوية منحصرة وتلك جهوية موسعة وأخرى متقدمة. وقد بلغت الدهشة إلى حد الاستغراب من تغييب تجربة المغرب الحضارية، الذي ظل عطاؤه في مجال النظم وتدبير المجال بالذات مِدْرارا على مدار قرون، وقد نَهَلَتْ منها الأمم وما تزال، واقْتَبَسَتْ منها الحضارة الغربية قبسَ نهضتها الحديثة. أما وقد هدأت العاصفة، وانجذبت المسامع والأنظار نحو دوائر بديلة للاسْتِرْزَاق، فلا بأس إن سمح القارئ بتسويد القِرْطاس برؤوس أقلام علها تَسْتَثِير هِمَمَ المهتمين بمشروع الجهوية. ولا يخفى عن مُطَّلِع كيف بلغ المغرب بنظام الأقاليم والكُورْ والجهات أعلى درجات الدقة في التدبير والتناسق في التسيير، أيام عِزِّ عطائه الحضاري خلال القرون الأربع الهجرية الأولى. ولا يخفى أيضا، كيف عَمَدَ إلى تعديل تلك النظم وإعادة صياغتها، لتتناسق مع ما ابتدعه بعدئذ من أنظمة سياسية في سياق إمبرطورياته الكبرى وسَلطنَاتِه الحديثة. فلا يَصِحّ أن تظل النّخب المفكرة والزعامات المُتَسَيّسة بمغرب القرن الواحد والعشرين جاهلة إلى هذا الحد بتاريخ البلد، مُحْتقرة لحضارته، مُسْتريحة في ظلال التقليد. ومما يدعو إلى الارتياح أن المغرب قد تمكن مع ذلك بفضل مجهودات التحديث الجُزْئية التي بذلها على فترات خلال تاريخه الحديث والمعاصر، من تجاوز النّعرات القبلية والسخائم العصبية والأنظمة العشائرية وروابط الدم في تدبير شؤونه المحلية وقضاياه الجهوية. ومن المعلوم أنه قد دفع مقابل ذلك ثمنا باهضا، إذ تفككت أنسجته المجتمعية وتضعضعت ذاكرته التاريخية وتغرّبت نخبه المفكرة، وفقد أهل النواحي والجهات قُدُرَاتِهم على المبادرة والإبداع. وما كان لِيَخْفى الفراغ الواسع الذي خلفه اندثار مفهوم "جماعة" أهل الحل والعقد من حكماء الناس وذوي التجربة في تدبير شؤونهم المحلية، وقد اكتسحت الأوامر والتعلميات المركزية كافة مجالات الحياة العامة. وما كان ليخفى أيضا حجم الفراغ الذي خلفه انطفاء أنوار تلك النخب المستنيرة من فقهاء المالكية المُتَخَرّجين من جامعة القرويين العتيقة ومدارس الفقه وعلوم الدين بالبوادي، إذ كان لهم ما كان من دور بفضل نظام الجماعة وخارج ميزانيات الدولة في الذود عن الوطن ورموزه العليا، وفي تأطير عامة الناس، ومنعهم عن السير في طريق الظلال، وتجنيبهم الكبائر والرذائل، وتوجيههم لما فيه فلاحهم وعِزّة دينهم ودُنياهم، مما فشلت في تحقيقه الوزارات المختصة، بكل ما أتيح لها من وسائل وأموال. أما وقد تمت مَرْكزَة كل شيء، فها هي ذي الكَفّة مائلة كل الميل، ومن المعلوم أن الأمر إذا زاد عن حَدِّه انقلب إلى ضده، والواجب يدعونا جميعا إلى النظر في أحسن السّبُل لعودة الاتّزان إلى أركان البلد. وإذا كان من بداية، فلا بأس من تَبَنّي نظام الجهوية في التسيير والتدبير. ولا حرَج، ما دامت مُعظم جهات المغرب ومنظوماته القبلية مع استثناءات قليلة، قد تجاوزت مستويات الانتماء العشائري الموروثة، مُلامِسَة حدود المواطنة الحديثة. ومن حُسْن الحظ أن الجهوية والقبلية المغربيتين قد احتفظتا مع تفكك أنسجتهما المجتمعية التقليدية بمضامين ثقافية وجغرافية. إنه الوقت الأنسب إن لم يكن قد تأخر ليس فقط للحفاظ على ما تبقى من بصمات نظام الجماعة الجهوي باعتباره إرثا وطنيا لا يُقَدّرُ بثمن، بل ويَسْتَحِثّنَا على رعايته وتطويره وجعله أساسا لمستقبل منظومتنا الجهوية. وما دامت أساليب التدبير والتأطير المركزية قد استنفذت إلى حد الشلل كافة طاقتها، فالأمل معقود على إحياء مكامن البذل والعطاء والمنافسة البناءة، انطلاقا من أعماق البلد بالنواحي والجهات لتتدفق نحو القلب، وتعود بالنفع عبر دواليب الدولة إلى كافة أنحاء البلاد. ولسنا بحاجة لخدمات مكاتب الدراسات التي تمتص ميزانيات ضخمة، دون نتائج تُذْكَر، ودون رقيب في كثير من الأحيان. بل يكفي أن نُلقي نظرةً خاطِفة على تاريخ البلد ونَسْتحْضر العناصر الأبرز من واقعه اليوم، لِنُقرّر من أين يكون البدء. فها هي ذي جهات المغرب بادية للعيان، لمن أراد الشروع في هيكلة أدوات تدبيرها. ويُسْتحسن أن يكون المنطلق من ستة محاور، خلال المرحلة الانتقالية: 1. جهة جبالة، حيث الأصول الغمارية المصمودية المُعَرَّبة اللسان، الأندلسية اللكنة، بأقصى شمال غرب المملكة. 2. جهة الغرب، بمفهومه الشامل لسهول وهضاب الساحل الأطلسي (الشاوية، دكالة، عبدة..) العربية اللسان، العروبية اللكنة. 3. صحراء المغرب الممتدة بأقصى جنوب المملكة، العربية اللسان، الحسانية والصحراوية اللكنة. 4. بلاد الريف حيث مواطن نفزة وصنهاجة الأمازيغية اللسان (تاريفيت) 5. الأطلس المتوسط الذي تمتد مواطنه بقلب المغرب، الأمازيغي اللسان (تاشلحيت) 6. بلاد السوس بالأطلس الكبير والنواحي، الأمازيغية اللسان (تاسوسيت) والجدير بالذكر أن اللغة العربية الفصحى قد شكلت منذ عهد طارق بن زياد، وعلى مدار أربعة عشر قرنا الوعاء الحضاري الجامع لعطاءات المغاربة العلمية والعملية بكافة هذه الجهات، وأداة وصلهم مع غيرهم من شعوب دار الإسلام، ولا يَصِحّ تهميشها بأيّ وجهٍ كان. وهو الوعاء الثقافي الرفيع الذي لا يُفَرِّط فيه ولا يَعْمَل على طمْسِه من المغاربة إلا جاهل بمكامن قوته، أو مهووس بدفع بلده إلى الانتحار الحضاري، أو راغب في إثارة مكامن الفتنة. ومن المفروض أن يكون إتْقانُها شرْطا دستوريا لتقلد أي منصب في كافة دواليب الدولة. ويُسْتحسن أن نَنْفتح قدر الإمكان على حضارات الآخرين بإتقان اللغات الأجنبية. ويُخَيل إلينا أنه بمجرد الشروع في إرساء قواعد الجهوية، تنقشع الغيوم التي أثارها أشباه المثقفين لإخفاء الحقائق وإثارة النّعَرات بهدف إستدامة التّمَعُّش من خزائن الدولة بِجَهَالاتهم. وكان قد سبق أن بَيّنا في أكثر من مناسبة مواطن الاتصال والانفصال بين المستويات اللغوية الثلاث المتداولة بالمغرب: العربية الفصحى والأمازيغية والدارجة المغربية. كما أشرنا إلى خطورة السرطان الذي واكب الاستعمار ومفعول سُمُومه التي ما فَتِئَت ترفع من وتيرة تفكيك المنظومات اللغوية المغربية الثلاث، وإتلاف أنسجتنا الثقافية. وقد غدا هذا السرطان الساكن في أجهزتنا السمعية البصرية وصُحُفنا وجامعاتنا ومعاهدنا العليا ومدارسنا ورياض أطفالنا وفي عُقر منازلنا، قاب قوسين أن يُحَوّلنا إن لم نَسْتَدْرك الأمر بصفة استعجالية وشاملة إلى شعب هَجِينٍ لغويا، مشلولٍ ثقافيا، مُرْتَبكٍ ترْبَويا، عاجزٍ علميا، وبدون أفق. ومن الانصاف أن تُصْبح الريفية بحكم القانون لغة التخاطب والتدبير والتسيير ببلاد الريف، كما كانت منذ آلاف السنين. ومن الانصاف أيضا أن تصبح أمازيغية الأطلس المتوسط وأمازيغية أهل السوس لغتين جهويتين، كما كانتا منذ أقدم العصور. فلا نحتاج حينئذ إلى معاهد ومدارس وطنية لتعليم لغة أمازيغية مُفتَرَضة، مما شرع المتعلمون في اختلاقها بحروف مُبْتَدَعة، وقد تأهّبُوا لتَعْمِيمها طوعا وكرها على كافة المغاربة. حقيقة أنه من المعروف لدى جميع أمازيغ المغرب أن "لغاتهم ترجع إلى أصول واحدة"، لكنه من الثابت لديهم أيضا كيف "تختلف فروعها حتى لا يفهم بعضهم بعضا إلا بترجمان"، حَسْبما ورد مُوَثقا في أقدم مصادر تاريخ المغرب. وهو نفس الوضع القائم إلى اليوم. ولا ندري أية حاجة هذه التي تدفع ببعض متعلمي المدارس إلى محاولة مَحْو الاختلاف بين الجهات، وإفساد التنوع التاريخي الذي تبلورت معالمه عبر آلاف السنين. ولا ندري لماذا يتكاسلون إلى هذا الحد في ميدان الدراسة والبحث عن الأصول، وتتبع حيثيات التطور اللغوي، وانتشال المكونات المُعْجَمية الأمازيغية المطموسة، وهم يتقاضون على عَمَل لمْ يُنْجِزُوه أجورا عُليَا من خرينة الدولة، وقد استكانوا على غرار عامة نشطاء المجتمع المدني لترويج الأقوال. وفي نفس السياق، فمن الإنصاف أن تُصْبح الدارجة المغربية بفروعها الجبلية والغربية والصحراوية لغات جهوية بحكم القانون. فلتتبارى بعدئذ كافة الجهات في حدود ما قد سَيُوَكل لها من مسؤوليات واختصاصات في إثراء موروثها الثقافي ومدارسها الفنية وتقاليدها المحلية وقدراتها على الإبداع، بما سيعود كما في ماضي عِزّ عطائنا الحضاري روافدَ متدفقة بالأنوار في اتجاه ترسيخ هوية المغرب الجامعة. ويُخَيّل إلينا أن الشروع في إعادة الهيكلة قد يُتِيح للبلاد قوة هائلة على مستوى المبادرة الخلاقة والعمل البناء والتنافس الإيجابي والخروج من حالة الركود العام الذي جثم على مقدرات البلاد الفكرية. إلا أن ثمة عوائقا، إن لم تكن مخاطرا قد تنزلق بأقدامنا نحو الهاوية، إن نحن أغفلنا تقدير مواطن الضعف ومكامن القوة فينا. ومن المعلوم أن أول ما خطط له أقطاب الحركة الإستعمارية لتدويخ المغرب، يتمثل في محاولة تفكيك وحدته، وخلخلة بُنْيَانه، وإعادة هيكلة جهاته بما يجعلها مستعصية عن التناسق وأميل إلى التنافر. وهي السياسة التي تَمّ تعميمها على كافة المستعمرات، فيما اشتهر بمسطرة سايكس بيكو التي عمدت إلى تقطيع أوصال البلاد العربية إلى كيانات ممسوخة، لا تُطابق في جغرافيتها مضامينها المجتمعية. والأخطر من ذلك، أنهم عمدوا إلى تلقيح الفكر العربي المعاصر بفيروس "الوطنية الحديث"، الذي يَفْتَرِضُ رقعة جغرافية محددة لكل مجموعة قومية متميزة الخصائص العرقية واللغوية، حيث يُتَاح لها إنشاء دولة. وبذلك يكون هؤلاء قد أفلحوا ليس فقط في الإمْسَاك بناصية النُّخَب المتعلمة وقياداتهم التي كان عليها تعويل الشعوب المُسْتَعْمَرَة، بل وفي تلغيم مُسْتقبلِ ما قدْ ينشأ تحت وصايتهم من أوطان مستقلة. وها نحن قد وصلنا إلى حقل الألغام المزروعة في طريقنا. ومن الطبيعي أن يَعْمَدَ جهابذة الفكر الإستعماري منذ تربُّصِهِمْ باحتلال الجزائر خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر واقتطاع الصحراء وتدويل طنجة وتقطيع الشمال وعزل سيدي إفني إلى وضع الألغام الكفيلة بتمزيق وحدة بلاد المغرب، ومنع أية مبادرة لإعادة هيكلة جهاته في المستقبل المنظور. ومن الطبيعي أيضا أن تظل الخريطة المرسومة في مختبرات أجهزته الذكية حَجَرة عثرةٍ تَمْنَعُ عن أهل المغرب أية محاولة للإمساك بمفاتيح مستقبلهم. وليس هناك طريقة أفضل لتحقيق الهدف المرسوم من نصب الأفخاخ على الحدود وإثارة النعرات الجهوية والتقاطبات القطرية. وليس أدل على ذلك من مهزلة إتحاد المغرب العربي الذي ظل يُرَاوِحُ مكانه، نشيدا في وسائل الإعلام وحلما غير قابل للتحقيق. وفي تقديري أن أمتن الأسس لإعادة اللحْمَة من جديد بين مُكونات الكيان الواحد المُمَزّق الأوصال منذ وطأ المستعمر الفرنسي أرضنا يكمُن في تهيئ الشروط ضمن مشروع أوسع للتدبير الجهوي يعمد إلى خلق جهة واصلة بين القطرين، تشمل شرق المغرب وغرب الجزائر. وفي ذات السياق الذي قد يبدو في الوضع الراهن حُلما بعيد المنال يتم الشروع في وضع أسس جهة واصلة بين شرق الجزائر وغرب تونس. وبذلك تنفتح الآفاق لعودة الأطراف المشتتة والأنسجة الممزقة للانتظام من جديد في كياناتها الأصلية التي كان لها ما كان من بريق حضاري باهر: المغرب وإفريقية. إلا أن واقع الأمور يجرّنا جميعا في الاتجاه المعاكس، نحو تفكك الأقطار القائمة لا قدّر الله لو ظلت مُسْتَكِينَة لنصائح المُنْتفعين من تَشَرْذمِنا، المُسْتفيدين من خَيْراتنا، الدّافِعين بأهلنا إلى هوامش العِوَز والجهل والفقر. وقد سبق أن أشرنا في مقالات أخرى إلى الدور المخرِّب لفيروس الوطنية الأروبي المنشأ، بدءا ببلقنة شبه جزيرة البِلُوبُونِيزْ، ومرورا بمشاكل الحدود الفرنسية الألمانية في الألزاس واللورين، وبالتطرف الوطني النازي والفاشي. وما زال مفعول هذا الفيروس لم ينتهي بعد، إذ شلّ قدرات الاتحاد الأروبي على تطوير مؤسساته نحو مستويات أرقى، وما زال يهدد دولة إسبانيا بانسلاخ القوميات عن السلطة المركزية. ولم تكن آثار هذا الفيروس أقل وطأة على مصير الشعوب العربية ومستقبل أوطانها، التي ظلت مهددة بالتفكك في أية لحظة، مُعَرَّضة للتوتر على الحدود ولحركات الانفصال. وبقدرما يتم تحريك الخلافات وإثارة النّعَرات بخيوط متشابكة يستعصي فك رموزها يتسلط جبروت الحكام بالمركز، ويبالغ في إقصاء الجهات وقهرها وإفقارها، ويستفحل الطغيان. وبذلك، تنضج الشروط لدى كبار المُتَحَكّمين في اللعبة للضغط ، تارة على المركز وتارة على الأطراف، فيَجْنون من كلا الطرفين ما طاب لهم من منافع، ويُوَرّطون الطرفين فيما بدا لهم من مهالك. أمّا وقد استنفذ تسلط الدولة الوطنية المركزية بالبلاد العربية دوره التاريخي في خدمة مصالح الآخرين وقهر المواطنين، وانكشفت كافة عوراته، فلا بأس من تفجير الألغام في وجهه. وها هي ذي النتائج الأولى بادية للعيان بكردستان العراق وجنوب السودان وأزواد مالي وصعدة اليمن. إنها بدايات الفصل الثالث من تاريخ استكانة حكام العرب لذوي النفوذ وأرباب المصالح الكبرى بالغرب، فتدَحْرَجْنا من الإمبرطورية العثمانية إلى الكيانات القومية إلى الدويلات الجهوية في اتجاه اندثار الأمة العربية. وإذا كان "تسويس الوطن" من أبرز خصائص الفصل الجاري من تاريخنا، فها هي علامات الفصل اللاحق بادية للعيان بعنوانها البارز: "تسويس الدين". ولا تخفى حِكْمة الدّعاء الذي ما زال يتردد بلسان عامة أهل المغرب في مجامعهم بالبوادي والحواضر: "اللهم لا تَجْعَل مُصِيبَتَنا في دِينِنا". وإذا كان فيروس الوطنية قد استنفذ مفعوله في تسويس كياناتنا، فقد حان الوقت لاستبداله بفيروس آقوى، بعدما تم تجريب مفعوله وبرهن عن فعالية عالية، ليس فقط في قهر الناس وكتم الأنفاس، وحظر الحريات الطبيعية في التفكير والتعبير، والمجتمعية في التجمع والتظاهر، والسياسية في فصل السلط وتوزيع الاختصاصات بين المركز والجهات، بل وفي حرية الملبس والمسكن والمشرب، إن لم يكن في طريقة السجود والركوع، وفي كيفية تقديم التحية لله، إلى ما عدا ذلك من تفاصيل. والجدير بالذكر، أنه منذ أزيحت أيامَ عِزّنا المعايير العرقية والقبلية والعشائرية في تحديد انتماء الشعوب المنضوية في دار الإسلام الناطقة بلغة القرآن من العرب والأكراد والتركمان والنبط والأقباط والدروز والبربر والسودان وغيرهم، حدثت إحدى أكبر الثورات المجتمعية في تاريخ الإنسانية، سرعان ما أفرزت هوية حضارية غير مسبوقة، أبعد ما تكون عن مدارك منظري فلسفة الأنوار الفرنسية. وفي سياق الهوية الجامعة لكافة مكونات دار الإسلام، المنتمية في مختلف الديانات: مسلمين ويهودا ونصارى، تهيكلت البلاد العربية في شكل بلدان غير قابلة للتجزيئ، بحكم طبيعة جذورها التاريخية وخصائصها الثقافية والبشرية. ويتعلق الأمر على وجه التحديد: بالعراق، وبلاد الشام، واليمن، والحجاز مع أطراف جزيرة العرب؛ ثم مصر وإفريقية والمغرب والأندلس. وها نحن أمام مُنْعَرج مصيري، فإما أن نشرع كل في بلده بترميم معالم هويتنا المُمَزّقة: مغاربة، وإفريقيين، ومصريين، وعراقيين، ويمنيين، وأهل الشام، وحجازيين مع أهل أطراف جزيرة العرب، وإما أن تَمِيدَ بنا سياسات الآخرين إلى دهاليز التشتت العرقي والتشرذم الطائفي. إشبيلية 10 أبريل 2012 الدكتور أحمد الطاهري أستاذ التعليم العالي ورئيس مؤسسة الإدريسي المغربية الإسبانية