كتاب المؤلف الأستاذ نبيل دريوش الجوار الحذر- العلاقات المغربية الإسبانية، من وفاة الحسن الثاني إلى تنحي خوان كارلوس ، عمل صدر في طبعته الأولى سنة 2015 ، وقام بصياغة تقديمه وزير الإعلام السابق المرحوم محمد العربي المساري، ويقع الكتاب في حوالي مئتي صفحة، تتخلله أربعة فصول، وهو مؤلف من الأهمية بمكان ويمكن اعتباره جزء أساسي لفهم الكتاب الجديد الذي صدر في الأيام القليلة الماضية، ويتميز الكتاب المعني بمقالنا هذا بأسلوب واضح ولغة قوية، إذ لا غرابة في ذلك فمؤلفه إضافة لكونه إعلاميا ومحللا صحفيا مقتدرا، هو صاحب مساهمات قيمة في الأجناس الفنية والأدبية . ويتوزع محتويات الكتاب منهج تحليلي رصين، يشمل مجالات التاريخ والحياة الاجتماعية، وصفحات مهمة من القانون تهم الجوانب الدستورية ومختلف التجليات السياسية المشتركة بين الجارتين الشمالية والجنوبية، حيث تناول في الفصل الأخير سبتة ومليلية على ضوء دستور سنة 1978 ، فإذا كان المغرب تعدديا ومتعددا، فإن إسبانيا بدورها ليست واحدة بل تعددية ومتعددة المشارب . يتناول الكاتب والمحلل الصحفي تجربة تدبير رئيس الحكومة الاسبانية خوسيه ماريا أثنار خلال الفترة الممتدة من 1996 إلى 2004 ، ويلقي الضوء على حدث جزيرة ليلى/ بيرخييل سنة 2002 ، والحيثيات الدقيقة المحيطة بتداعياته وأسبابه الحقيقية بشكل موضوعي، وكيف أن إسبانيا لجأت إلى ترجيح خيار التدخل العسكري، أمام ستة رجال من الدرك الملكي كانوا فوق هذه الصخرة في عملية أمنية عادية ألفوا القيام بها في السنوات الماضية، من أجل رصد وإيقاف الشبكات الإجرامية المتجرة في المخدرات والمواد التي يحظرها القانون، وموقف الاتحاد الأوروبي المنحاز لصالح إسبانيا في هذه النقطة بالتحديد، رغم كون المؤرخة الاسبانية ماريا روسا دي مادرياكا، تثبت أن ليس هناك أية وثيقة تاريخية تؤكد حق إسبانيا في امتلاكها لهذه الأراضي، وهو الحدث الذي كانت له تداعيات ديبلوماسية بين البلدين، رافقه غياب التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين الجارين، مما ساعد تنظيم القاعدة الإرهابي على ضرب مدريد في 11 مارس 2004 ، وهو الاعتداء الذي نجم عنه حجم كارثي من القتلى والضحايا، وقد رفض أثنار تقدير المغرب الذي اعتبر هذا الاعتداء الإجرامي تتمة أو شوطا ثانيا من العملية الإرهابية التي تعرضت لها مدينة الدار البيضاء المغربية في 16 مايو 2003 ، وحاول لأثنار أن يورط أو ينسب العملية إلى إيتا الانفصالية داخل إسبانيا، ودفع في هذا الاتجاه الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت رافضة لهذا الاستنتاج ومترددة، ملحا في نفس الوقت، في اتجاه التأثير على أمريكا في زمن جورش بوش الإبن حتى لا يتم إشراك المغرب في مخطط مناهضة الإرهاب على الصعيد الدولي . هذه المواقف والتحركات السياسية، التي كانت تصدر عن أثنار مردها إلى رفض الحكومة المغربية تجديد اتفاقية الصيد البحري مع دول الاتحاد الأوروبي التي كانت إسبانيا جزء لا يتجزأ منها، وذلك في خضم امتناع البرلمان الأوروبي على تجديد الاتفاقية بدور،ه نظرا لموقف بعض دوله من المياه الإقليمية المغربية المندرجة في الصحراء، وقد تجووز هذا المشكل لاحقا، واعتبر الأمر ضربة قاصمة لجبهة البوليزاريو، وانتصارا للديبلوماسية المغربية، وقبول المغرب هذه العملية، رغم كون جزء من هذه المبالغ المالية مخصصة لمراقبة حقوق الانسان بالصحراء المغربية، وقد كانت إسبانيا على عهد أثنار أول من طالب بمقترح مراقبة حقوق الانسان فوق تراب الصحراء منذ سنة 2005 ، ليصبح عنصرا في نزاع الصحراء، ولحسن الحظ فقد قامت سوزان رايس بسحب هذا المقترح لا حقا حفاظا على العلاقات التي تربط أمريكا بالمغرب . مع فشل اليمين الاسباني وتراجع حزب الشعب في النتائج التي أحرز عليها في انتخابات 2004 بإسبانيا، فقد تسلم رءاسة الحكومة الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني في شخص خوسيه لويس ثباتيرو، كان المغرب يتهيأ للإعلان عن مشروع الحكم الذاتي في أقاليمه الجنوبية، وقد توسم خيرا في هذا الصعود الجديد للاشتراكيين الاسبان، من أجل دعمه في سياسته الجديدة تجاه وحدتنا الترابية، وبالفعل فقد تحدثت وثائق ويكليكس لسنة 2010 عن وجود دعم خفي من وزارة الخارجية الاسبانية لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، خوفا من قواعد الحزب الاشتراكي التي كان معظمها يدعم الطرح الانفصالي للبوليزاريو، وفي هذا السياق كانت دعوة الحزب الاشتراكي العمالي في مجلس الأمن تدعو إلى التخلي عن قاموس تصفية الاستعمار وتقرير المصير، واستبداله بمصطلحات من رصيد لغوي جديد، مثل الجهوية، الحكم الذاتي ، وقد جاء هذا التحول بعد موافقة المغرب على تجديد اتفاقية الصيد البحري، حيث كانت مجموع السفن الإسبانية في المياه الإقليمية المسموح لها بوحدها بالصيد تشكل نسبة 90 في المئة، إضافة إلى تكريم الحكومة الاشتراكية للجنيرال احميدو العنيكري والحسني بنسليمان القائد العام للدرك الملكي بأوسمة فاخرة، مقابل تعاون المغرب والتنسيق مع اسبانيا في مجال محاربة الإرهاب، وكيف قابلت هذا التدبير السياسي قواعدهم الحزبية بنوع من الانتقاد. وإن كانت هذه العلاقة الإيجابية لم تستمر طويلا، ففي عالم السياسة كل شيء يخضع للتحول السريع بناء على البراغماتية وشبكة المصالح الطارئة، وذلك نتيجة الزيارة التي قام بها عاهل اسبانيا الملك خوان كارلوس وعقيلته إلى مدينة سبتة سنة 2007 ، وبالنسبة للاتحاد الأوروبي فقد كان موقفه هذه المرة هو الحياد على أساس أن قضية سبتة ومليلية مشكل داخلي بين بلدين، ورغم ذلك وما أعقبته هذه الزيارة من غضب واسع لدى المغاربة، فإن هذه الأزمة لم تستغرق أطول من شهرين، رغم استدعاء السفير المغربي السيد عمر عزيمان من مدريد وعودته للرباط، وخلال فترة الأزمة التي كانت فرنسا تنظر إليها بعين الارتياح؛ بعد أن أزاحت منافسا مزعجا اقتصاديا لها في المغرب، فقد تم توقيع اتفاقيات مهمة على عهد الرئيس اليميني نيكولا ساركوزي، على رأسها قيام فرنسا بإنجاز القطار الفائق السرعة بين طنجةوالدارالبيضاء، وهو مشروع كان يسيل لعاب المؤسسات والشركات الاسبانية الكبرى . وقد حلت تجربة رئيس الحكومة ماريانو راخوي، بعد مغادرة الاشتراكي ثباتيرو، وتزامن ذلك مع عدد من المشاكل المستفحلة، من قبيل مشاكل المهاجرين المغاربة، وحاولة راخوي انتهاج موقفا جديدا يمسك فيه العصا من الوسط، وأن يشعل شمعة لله وشمعة للشيطان كما يقال في المثل، في محاولة لإرضاء جميع الأطراف، والحفاظ على المصالح الحيوية لدولته الأم إسبانيا، علما أن تقريرا استراتيجيا لإسبانيا صدر سنة 2014 ، أوصى بالدفاع عن الحكم الذاتي بشكل يرضي المغرب وجبهة البوليزاريو، لأن خلق دولة من مئات الآلاف من السكان، حاليا، سيزيد من الاضطراب والهشاشة الأمنية في المنطقة؛ نظرا للتحولات التي تعيشها منطقة الساحل . وقد تزامن ذلك مع صعود حزب العدالة والتنمية بالمغرب، ونحن مازلنا نتذكر مقولة بنكيران رئيس الحكومة المغربية الذي أكد أن العلاقات مع راخوي ستكون صعبة؛ وكيف أنه حاول تقبيله عند نزول راخوي في مطار الرباط ، مثلما يفعل المسؤولون العرب والمسلمين مع ضيوفهم الكبار، وإن كانت ثقافة وعقلية الإسبان لا تسير في هذا المنحى، كما تزامنت شدة الأحداث مع تنحي الملك خوان كارلوس بعد أن استغرق حكمه أربعة عقود، مسلما المشعل لابنه فلبي السادس الممثل لتجربة وجيل جديد مختلف، خوان كارلوس الذي كان عليه أن يبعث الملكية من وهدة سباتها العميق ويواجه الجيش القابع في ثكناته، خاصة بعد انقلاب الجنيرال الفاشل أنطونيو تيخيرو سنة 1981 ، وجيشا آخر من الجمهوريين الذين كانوا يسيطرون على الساحات والشوارع العامة، ورغم ذلك فقد نجح خوان كارلوس في إرساء أسس علاقات جديدة بين البلدين، مستفيدا من أجواء المصالحة وسياق الانتقال الديمراطي المهم الذي تحقق بعد وفاة الجنيرال فرانكو سنة 1975 ، وبدعم من رئيس حكومته راخوي وفي ظل أزمة حقيقية داخل إسبانبا ومحيطه الملكي بالخصوص، عكس سلفه لويس ثباتيرو الاشتراكي الذي همش ملكه خوان كارلوس وأصبح وحده الفاعل في الساحة الدولية. يستعرض الكتاب من جانب آخر مسار تطور المؤسسة العسكرية بالمغرب، مشيرا إلى أن المغرب انتبه بعد تدخل إسبانيا عسكريا في قضية جزيرة ليلى/ بيرخييل التي تعتبر امتدادا طبيعيا لجغرافية وتراب المغرب، إلى أن نظام البحرية المغربي كجهاز عسكري يلزمه إجراء إصلاحات حقيقية، فعلى طول 512 كيلومتر من الشواطئ المتوسطية لم يكن يتوفر آنذاك سوى على قاعدة عسكرية بحرية واحدة شيدت بالحسيمة سنة 1977 ، على بعد 150 كيلومترا من مدينة مليلية، لتنقل ابتداء من سنة 2015 الى الناظور على مقربة من مليلية، وفي إطار هذه الرؤية أعلن المغرب عن الشروع في إنشاء قاعدة بحرية عسكرية سنة 2008 على بعد 25 كيلومترا فقط من مدينة سبتة بتكلفة بلغت 127 مليون أورو، في نفس السياق عمل على إحداث قاعدة عسكرية جديدة قرب القصر الصغير، مؤكدا بذلك عن حضور وتوجه جديد في عرض البحر المتوسط في منطقة تعتبر جد استراتيجية؛ وعدم ترك المجال فارغا لإسبانيا وحدها . ومشروع هذه القاعدة العسكرية في القصر الصغير جاء بعدما تلقى الضوء الأخضر من أمريكا وبريطانيا وتأكد من الصمت الإسباني حول الموضوع، وإن كانت مدريد قلقة وغير مرتاحة إزاء هذه الخطوة، لكونها تشكل محاولة لتحقيق نوع من التوازن مع إسبانيا المتوفرة على بوارج حربية في سبتة ومليلية، وكان العرف يقضي منذ استقلال المغرب بعدم قيامه بإحداث أية قاعدة على الواجهة المتوسطية، إذا استثنينا القاعدتين القديمتين في عرض الأطلسي بكل من الدارالبيضاء وأكدادير، إذ لم يكن المغرب في حاجة إلى إهدار ميزانيته، لأن الحرب التي خاضها في التاريخ العسكري الحديث بعد الاستقلال، تمت في سياقات مواجهته لميلشيات البوليزاريو الانفصالية، وقد كانت على صعيد البر والجو، وضمن مجال جغرافي ممتد بكثافة لإحكام السيطرة على تراب الصحراء المغربية . يستعرض الاعلامي المؤلف للكتاب، جوانب تاريخية وقانونية ودستورية ذات أهمية خاصة في القانون الدولي وأنظمة الحكم والتنظيم الدستوري، فهو يتناول ليس كمؤرخ، وإنما كصحفي ومحلل سياسي مهتم بتاريخ العلاقات المغربية الاسبانية، وبمنهج متدرج تاريخ احتلال سبتة المغربية في بداية القرن الخامس عش الميلادي وكيف تم تحويلها وتسليمها للإسبان بعدما أصبحت البرتغال تحت سيطرة التاج الاسباني المندرجة ضمن مكونات الإمبراطورية الاسبانية الشاسعة، وعن تاريخ احتلال مليلية أيضا في النصف الثاني من القرن 15م، ويطرح المؤلف سبتة ومليلية والجزر المستعمرة في الدستور الإسباني، فاتحا بذلك المجال لنقاش غير مسبوق ليس على مستوى التاريخ فقط، وإنما أيضا في سياقات القانون الدولي والعلاقات الدولية والعلوم السياسية . وذلك لسبب وجيه يتعلق بدستور 1978 الذي رسم ملامح إسبانيا الحديثة طيلة فترة الانتقال الديمقراطي والفترة التي تليها، حيث ظلت سبتة ومليلية تمثلان وضعا غير عادي من الناحية التاريخية والجغرافية بالنسبة للوجود الاسباني بهذه المناطق المغربية، الأمر الذي جعل حكام مليلية وسبتة يتدخلان لدى لجنة الدستور الاسباني من أجل التنصيص عل المدينتين بالاسم؛ وكلك بقية الجزر التي لم يرد ذكرها بدورها في الدستور الاسباني وبقية القوانين المنظمة للتراب الاسباني، مسجلة بذلك هشاشة واضحة بالنسبة لوضعيتها القانونية، ويبقى الهدف من وراء إدراجها في مضامين دستورهم، هو العمل من أجل كبح شرعية المطالب المغربية في أفق استعادتها، ولم تتم الاستجابة لمطلبهم، لتظل لحسن حظ المغرب ومصلحته إحدى أهم الثغرات في الدستور الاسباني ، بخصوص عدم تحديده لمجال السيادة الاسباني . وهكذا، يتبين على ضوء الكتاب، فإذا كان الوجود الاسباني في المناطق المغربية قد أثر على الاستقرار في البحر المتوسط، وكان تطبيق الحكم الذاتي في المدينتين السليبتين قد أزعج المغرب سنة 1995 ، كما أنه إذا كانت اسبانيا مهددة بمشكل الانفصال في أكثر من إقليم، وترتبط بحساسيات داخل إسبانيا لها علاقة بالوحدة الترابية، فإن الطبقة السياسية المغربية وعلى رأسها المؤسسة الملكية تجمع على مغربية المدينتين وبقية الجزر المحتلة، وتضع مسألة التذكير المستمر بهذه المطالب استراتيجية أبدية ودائمة. فوجود قضايا عالقة، وفي مقدمتها ملف سبتة ومليلية، هو إحدى العوامل التي تؤدي إلى تناقض المصالح الوطنية في بعض اللحظات بين المغرب واسبانيا، وتجعل الجوار، مهما تقدم بينهما، مرفوقا بكثير من الحذر والتوجس .