عندما تولد من أب مسلم، لا يمكنك أن تختار غير الإسلام كدين وعقيدة عندما تصير عاقلا. ولو فعلت، ستصبح مرتدا يمكن إقامة الحد عليك في أي وقت، تطبيقا لفتوى قد يصدرها أحد شيوخ التكفير الذين لا يؤمنون إلا بما نقلوه عن السلف طبقا لفهمهم الخاص، والذين فرضوا أنفسهم أوصياء على الدين دون تكليف من أحد ! وهذا ما يؤدي بأغلب المسلمين والمسلمات، ولا أقول المؤمنين والمؤمنات، إلى تعاملهم مع عقيدتهم تعاملا ظاهريا، وتدبير تعاليم دينهم من خلال التقاليد والأعراف التي ورثوها عن أجدادهم، أو بتطبيق توجيهات الوعاظ والمرشدين الذين كثرت أنشطتهم الدعوية، وزاد عدد فتاواهم عبر الفضائيات وشبكة الإنترنيت بشكل لافت للانتباه في الوقت الراهن، غالبا ما تكون تحت الطلب من طرف أولياء النعمة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه، وإلى عهد قريب، كان الأمر كذلك بالنسبة لجل الديانات التي اعتنقها الإنسان، قبل أن يقبل فقهاء الديانات الأكثر انتشارا في العالم بضرورة مراجعة بعض الثوابت في نصوصهم المقدسة التي كانت تحول دون تطور العقل وتقدم العلم، وسببا في جل الحروب الأكثر دموية التي عرفتها البشرية. فهل يختلف الإسلام عن الديانات الأخرى، إلى حد اليقين بأن تراثه خال من الأخطاء البشرية، وأن ما وضعه السلف، وما يفتي به العلماء والوعاظ هي الحقيقة المطلقة، ولا وجود لحقيقة أخرى غيرها ؟ هذا سؤال يصعب وضعه في العصر الحالي، ويصعب أكثر الخوض في الجواب عليه عقليا، لا عاطفيا، دون إثارة حفيظة المتدينين المتطرفين والمتعصبين إلى أقوال وأفعال السلف الصالح، بل المقدس بالنسبة إليهم. لكن، ونظرا لأهمية الموضوع، سأغامر في التطرق إلى إشكاليتين من الإشكاليات التي تطرحها بعض الثوابت التي تمثل عائقا هاما لتحرر العقل، ويتم السكوت عنها لأسباب عديدة، كأن يخشى الإنسان مثلا عذاب القبر إيمانا منه بأن الله عز وجل يحرم الخوض في مثل هذه الأمور التي تبقى من اختصاص العلماء، أو أن يخاف من تسلط ألسنة شيوخ التكفير الذين يعتبرون أنفسهم "جند الله" فُرض عليهم الجهاد للتصدي إلى كل من سولت له نفسه أن يخالف ما يعتقدون أنه شرع الله، أو أن يطبق المقولة الرائجة " كم من حاجة قضيناها بتركها "، إلى غير ذلك من الأسباب الموضوعية والذاتية. فرجاء من القراء المتفاعلين مع الموضوع أن يتعاملوا مع الأسئلة الحرجة التي تطرح نفسها، باللباقة والأخلاق والآداب التي يفرضها علينا الإسلام ؛ وإذا تعذر عليهم الجواب، أن يعملوا على توجيه القراء في تعقيبهم إلى الجهة التي يمكن لها أن تقدم أجوبة عقلانية وموضوعية تغني النقاش الهادئ، ولا تثير الزوابع المضرة بأخلاقيات الحوار الهادف. تتناول الإشكالية الأولى جانبا من جوانب حقوق الإنسان. فلا شك أن ديننا الحنيف يدعو في أكثر من آية وأكثر من حديث إلى العدل بين الناس " إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا "، وإلى احترام كرامة الإنسان ما دام الله قد كرمه في قوله تعالى " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً " صدق الله العظيم. أما ما ورثه علماء أهل السنة عن سيرة الخلفاء الراشدين، وعلماء الشيعة عن سيرة الأئمة المعصومين الإثني عشر، فإنه يرفع إلى درجة المقدس كل من الصحابة المبشرين بالجنة عند أهل السنة، وعليا وولديه والأئمة التابعين من أحفاده عند الشيعة، ويؤكد على أن الإسلام تناول منذ أربعة عشر قرنا حقوق الإنسان بكيفية أرقى من المنظومة التي يتحدث عنها الغرب في العصر الحالي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الإشكالية تبرز من خلال السؤال البسيط والمحير التالي : ما دام الإسلام قد أقر مبادئ الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية منذ بداية نزول القرآن الكريم، فلماذا لم يحرم الرق ؟ مع العلم أنه حرم بعض الأفعال التي لا تضر إلا بمن يرتكبها، كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير...، وحرم الربا الذي كان نظاما أساسيا في المعاملات التجارية والاجتماعية ومصدرا للرزق لكثير من العباد، بينما لم يحرم الرق الذي كان يضر بجميع الآدميين الذين قادهم القدر إلى فقدان حريتهم بسبب ديْن لم يستطيعوا تسديده، أو حرب سقطوا أسرى فيها لدى العدو، أو فقط لأنهم ولدوا من جارية مملوكة لسيدتها أو سيدها. وكان العبيد إلى عهد قريب ( بداية القرن العشرين ) يباعون ويشترون كقطعان من الحيوانات الأليفة في أسواق النخاسة، ويتم إحصاؤهم ضمن تركة الميت لتقسيمهم بين الورثة، وينكح السيد منهم ما ملكت أيمانه، واستمر الأمر كذلك إلى أن حُرّمت هذه الظاهرة عالميا بعد أن جرمت جل الدول الأوروبية هذا العمل البشع واللاإنساني في قوانينها ابتداء من القرن التاسع عشر، وخاصة بعد نجاح ثورة العبيد ضد الأسياد بالولايات المتحدةالأمريكية التي تُوجت سنة 1865 بتخصيص الفصل الثالث عشر من دستور هذا البلد لمنع الرق. ورغم بشاعة هذه الظاهرة، فإن بعض الدول الإسلامية لم تمنعها إلى حد الآن بذريعة أن الشريعة الإسلامية لا تحرمها، ولم تسكت عنها، بل خصصت لها بابا في الفقه "باب الرق" أو "باب بيع الرقيق" يحدد القواعد القانونية الواجب على المسلم تطبيقها في هذا المجال، كتحريم استعباد مسلم حر، ومنع الاستعباد بسبب عدم القدرة على الوفاء بديْن...، إلى غير ذلك من التدابير المستنبطة من القرآن والسنة التي تشجع على العتق وحصر مصادر الرق. وكان الغرض من هذه التدابير أن تقضي على الرق في المجتمعات الإسلامية تدريجيا مع مرور الزمن، تجنبا للاضطراب الاجتماعي الذي كان سيحصل في الجزيرة العربية بين معتنقي الإسلام لو نزلت آية تحرم الرق، أي تقطع مصدر الرزق على كثير من العباد الأسياد في ذلك الزمان، وذلك حسب ما يذهب إليه المفسرون المدافعون على سلامة النهج الذي اتبعه الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع. ولو تجرأ أي مسلم يعقل بدماغه، لا بقلبه، على تقييم الأشياء تقييما سليما، لخلص إلى أن هذا النهج قد خدم طبقة الأسياد من المجتمع دون غيرهم، ولم يقض أبدا على الظاهرة الخطيرة التي تعتبر جرما ضد الإنسانية، بل زاد من وتيرتها بشكل كبير خلال الحروب التي شغلت المسلمين طوال القرون التي كان للجيوش الإسلامية ما يكفي من القوة والعتاد للهجوم على بلاد " الكفار"، لقتل محاربيهم وأسر نسائهم وأطفالهم قصد تحويلهم إلى جاريات وغلمان يوضعون في أسواق النخاسة رهن إشارة الأسياد القادرين على دفع المال، أو يقدمون كهدايا لأصحاب النفوذ المقربين من مراكز السلطة. فلو كتب الله النصر للجماعات الإسلامية، ووحدت صفوفها وحققت العودة إلى الخلافة الإسلامية كما تسعى إلى ذلك، هل ستتخلص من القوانين الوضعية وتطبق الشريعة الإسلامية كما تعد بذلك، وتفتح من جديد أسواق النخاسة على أراضيها لبيع وشراء الإماء والعبيد الذين سيتم أسرهم مستقبلا من بين الكفار في الفتوحات الإسلامية التي يفرضها الجهاد على المسلمين ؟ هذا سؤال آخر محير لكل مسلم يتدبر دينه بعقله، يصعب الجواب عليه بالنفي. أما الإشكالية الثانية، فإنها تتعلق بمفهوم الإعجاز في القرآن الكريم. وقبل وضع السؤال الحرج حولها، تدعو الضرورة إلى التذكير ببعض الثوابت في الإسلام المرتبطة به، والتي لا يمكن لأي أحد أن يناقشها أو يعيد النظر في صحتها : نص القرآن الكريم كما يتلى ويستظهر اليوم في كل بقاع العالم الإسلامي هو النص الذي نزله الله على نبيه ورسوله محمد صلم، وهو الذكر الذي قال عنه تعالى " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " صدق الله العظيم. القرآن هو الكتاب الذي ختم الله به الكتب المنزلة من عنده. الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان، وفي كل مكان. الإسلام دين أرسل إلى العالمين، أي إلى الإنسان أينما وجد على الكرة الأرضية، ومن يبعث يوم القيامة بدين غير الإسلام لن يقبل منه، أي مأواه جهنم. لا يتسع المجال في هذا المقام للاستشهاد بآيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنة النبوية الشريفة التي تؤكد هذه الثوابت، التي يصعب على أي كان أن يشكك في صحة ولو جزء يسير منها دون تعرضه للتكفير، ظاهريا من طرف الأصوليين السنيين الذين لا يؤمنون إلا بالخلافة الإسلامية على نهج الخلفاء الراشدين كحل وحيد لإنقاذ الأمة الإسلامية والقضاء نهائيا على الشيعة الحاقدين، أو باطنيا من جانب الشيعة الذين ينتظرون أن يعجل الله بالفرج على الإمام المهدي المنتظر لينشر الدين الحق ويخلص العالم من الكفار والمنافقين، وفي مقدمتهم أهل السنة ! قال الله سبحانه وتعالي فيما يتعلق بصوم رمضان " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ". تعتبر هذه الآية من النصوص القطعية الدلالة لأنها تحدد فترة الصوم بشكل دقيق، لا يمكن تأويلها ولا يمكن لاثنين أن يختلفا حول مدلولها. فالصوم ينطلق مع ظهور بياض النهار من سواد الليل، وينتهي مع حلول الليل. وبما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا يمكن لأي عقل سليم يؤمن بوجود الله وبعظمته أن يقول بغير هذا، فما السر في نزول هذه الآية التي لا يستطيع بعض عباده تطبيق مقتضياتها بسبب عيشهم في مناطق شاسعة على الكرة الأرضية لا يتم فيها تعاقب النهار والليل بالشكل الذي يتم به في الجزيرة العربية وفي جل بلدان العالم ؟ ولماذا يضطر بعض العلماء الذين يستفتون في الأمر إلى نصح المؤمنات والمؤمنين بالصيام حسب "توقيت أقرب البلاد المعروفة الأوقات إليهم"، خلافا لما ورد في الآية الكريمة، وخروجا عن القاعدة الفقهية العامة التي تقول " لا اجتهاد مع وجود النص " ؟ ولماذا سكت دعاة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم عن هذا السر ؟ إن الأسئلة المحيرة التي تطرحها مثل هذه الإشكاليات لا يمكن الجواب عليها بشكل مقنع إلا إذا أعيد النظر في بعض الثوابت السابقة الذكر، لأن الجواب الوحيد والأوحد الذي نجده عند الوعاظ والمفسرين للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هو دعوة المؤمنين والمؤمنات إلى تجنب مثل هذه الأسئلة التي تعد من وحي الشيطان، ويبقى الجواب عليها سرا من أسرار الله سبحانه وتعالى. وهنا تكمن حاليا مشكلة المسلم المؤمن مع عقيدته التي تعتبر المكون الرئيسي من بين مكونات هويته، والتي يصعب عليه التشكيك في بعض الثوابت التي وضعها السلف. وفي انتظار مجددين دينيين يتحلون بالشجاعة الكافية لقول الأشياء الكثيرة المسكوت عنها، يجب على المؤمنات والمؤمنين أن يتعاملوا مع دينهم بما يمليه عليهم ضميرهم واجتهادهم، امتثالا لقوله تعالى " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " صدق الله العظيم، لا بما يمليه عقل بشري مثلهم قد تكون له في غالب الأحيان أهداف غير نبيلة يسعى من ورائها إلى التقرب من أولياء النعمة في هذه الدنيا أولا، قبل الفوز بالجنة في الآخرة التي يبقى سرها وعلمها وغيبها عند الله سبحانه وتعالى، لا شريك له فيها. وبما أن كثيرا من أحكام الشريعة الإسلامية قد أصبحت متجاوزة في هذا الزمان، كفقه الرق وإقامة الحد على السارق والزاني والزانية...، فإن العقل يملي على كل ضمير حي أن ينخرط في صف الديمقراطيات والديمقراطيين الذين يناضلون من أجل نظام سياسي يتعامل مع المواطنات والمواطنين على مسافة متساوية مع جميع الأديان كما دعا إلى ذلك أردغان، رئيس الوزراء بتركيا، البلد المسلم الذي تخلص من عقدة الشريعة الإسلامية، وركب قطار التنمية إلى جانب الدول المتقدمة التي فهمت منذ زمن طويل خطر تدخل الدين في السياسة، ففصلت الدين عن الدولة في أنظمتها السياسية ولم تمنع أبدا التدين على أفراد شعوبها، كما يروج ذلك تجار الدين الذين يزكون الأنظمة الشمولية والاستبدادية. فهل فهم حزب العدالة والتنمية في بلدنا الرسالة التي وجهها رئيس وزراء تركيا إلى الدول الإسلامية بمناسبة اندلاع الحراك السياسي والاجتماعي الذي تعرفه جل الدول بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا ؟ إن المتتبع للطريقة التي تتعامل بها الحكومة الجديدة مع الحركات الاحتجاجية السلمية، وخاصة التعتيم الذي مارسته وسائل الإعلام الرسمي على الأحداث الأليمة التي عرفتها بعض المدن المغربية كتازة وطنجة وبني ملال وسلا وغيرها، لا يمكنه أن يجيب إلا بالنفي على هذا السؤال. وخلاصة القول، إن الانتقال إلى الديمقراطية الفعلية يتطلب من مفكري ومثقفي بلدنا أن يقوموا بثورة فكرية حقيقية، تخلص الشعب من عقدة التاريخ الذي يٌختزل في تراث السلف الصالح ومنجزات السلاطين والملوك، وتساعده على الخروج من حالة العقم الفكري والروحي التي يعيش فيها منذ زمن طويل، وتفتح له باب المشاركة الفعلية في جميع القضايا المرتبطة بالعبادات وبالمعاملات، على حد سواء، دون خطوط حمراء، وبعيدا عن استغلال الدين لتحقيق مكاسب دنيوية مادية على حساب الجوانب الروحية التي جاء من أجل تهذيبها وإصلاحها.