"لوموند": الجزائر مستاءة من التقارب المغربي الفرنسي.. والرباط نجحت في اختبار القوة الذي فرضته على باريس    بوادر انفراج الأزمة .. تفاصيل أول لقاء لميداوي والتهراوي مع طلبة الطب    هذه أسباب استعانة الملك ب"العكاز" خلال استقباله للرئيس الفرنسي    لوديي يستقبل بالرباط وفدا من الكونغرس الأمريكي    وزير الفلاحة يعلن عن إجراءات جديدة لضبط أسعار زيت الزيتون    ماكرون في المغرب.. مسار جديد للعلاقات الثنائية يرسم ملامح المرحلة المقبلة    بسبب فينيسيوس… ريال مدريد يقرر عدم المشاركة في حفل الكرة الذهبية    "مانشستر يونايتد" يقيل مدربه الهولندي    الناظورية كوثر بعراب تفوز بالميدالية الذهبية في البطولة الوطنية للكيك بوكسينغ    قاضي الجلسة يطرد حميد المهداوي من قاعة المحكمة    الكوليرا تودي بحياة أكثر من 100 شخص في تنزانيا خلال 10 أشهر    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    الفنان زكرياء الغافولي يصدر أحدث أعماله الغنائية المصورة    أخبار الساحة    بسبب خطاب الكراهية ضد الأمازيغ.. إلياس المالكي يحال على النيابة العامة    مطارات المغرب تسجل رقما قياسيا بأزيد من 24 مليون مسافر خلال 9 أشهر    إحالة إلياس المالكي على وكيل الملك بتهمة "تسويق خطاب الكراهية"    تساقطات مطرية وثلجية وطقس بارد من الاثنين إلى الأربعاء بالمغرب    تقرير: جهة طنجة تسجل إحداث أكثر من ألف مقاولة كل شهر    إطلاق حملة وطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة    مقاييس التساقطات المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    تقرير: ارتفاع المخزون المائي إلى 918 مليون متر مكعب بشمال المغرب        سعيدة فكري ترد على إتهامات رفضها الغناء أمام جمهور أكادير    الملك يشيد بالصداقة والتعاون مع التشيك    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    يونايتد إيرلاينز تطلق أول خدمة مباشرة على الإطلاق بين مراكش ونيويورك/نيوارك    تازة: دار الطالب والطالبة أمسيلة تجسيد بارز لانخراط المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في النهوض بخدمات مؤسسات الرعاية الاجتماعية    الاحتفاء بالأديب محمد برادة في 24 مدينة تكريم لستة عقود من العطاء الأدبي والفعل الثقافي    آخر اختيار يواصل التألق والفاسي تظفر بجائزة أحسن ممثلة بمهرجان دولي في الكاميرون    وفاة طالب بكلية الطب بمراكش تثير قلقا حول الأوضاع النفسية والخدمات الصحية    ارتداء لباس قاتم ومنع الهواتف.. هذه هي تدابير حضور البرلمانيين لخطاب الرئيس ماكرون    صيادو الحسيمة يعثرون على جثة بشرية مجهولة عالقة بشباكهم في عرض البحر    زيارة ماكرون.. مطالب باعتذار رسمي عن الجرائم الاستعمارية بالمغرب والكف عن دعم الإبادة الصهيونية    جنوب إفريقيا تقدم اليوم ملفا ل"العدل الدولية" لإثبات اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية في غزة    زياد فكري ل"برلمان.كوم": أكاديمية محمد السادس لكرة القدم نموذج للانضباط وصناع الأبطال    أسعار الصرف .. الأورو والدولار تحت المجهر أمام الدرهم    العراق يحتج على استخدام إسرائيل أجواءه لمهاجمة إيران    خارجية إيران تتوعد إسرائيل ب "رد حازم"    المغربي يونس الخمليشي يفوز بجائزة قطر العالمية لحوار الحضارات    "إكس" توقف حساب المرشد الأعلى الإيراني بعد منشور بالعبرية    "سبيس إكس" الأمريكية تطلق 22 قمرا صناعيا جديدا إلى الفضاء    ترامب يسعى ليكون الرئيس الأمريكي الثاني الذي يعود إلى البيت الأبيض بدورتين غير متتاليتين    مقترح مصري لوقف موقت لإطلاق النار في غزة ومفاوضات بالدوحة أملا في إنهاء الحرب    هناك أرضية خصبة لإنضاج مشاريع سينمائية مشتركة بين المغرب وموريتانيا (سينمائيون)        في مواجهة عرفت طرد أمين حارث.. باريس سان جيرمان يكتسح مارسيليا بثلاثية    إعادة انتخاب المدير العام للمغربية للألعاب والرياضة نائبا لرئيس الجمعية العالمية لليانصيب    حظوظ وزير الصحة والحماية الاجتماعية لبلوغ الغايات والأهداف المنشودة    Gitex Global: هواوي تطلق سلسلة من حلول التحول الرقمي والذكي للصناعة    عضة بسيطة من كلب أليف "كانيش" تتسبب في وفاة شاب    الصحة العالمية تحذر: أعراض ارتجاج المخ قد تتأخر في الظهور        مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مهب رياح التمركس والأسلمة
نشر في شبكة دليل الريف يوم 30 - 12 - 2010

حاضر المغرب واختلالات الأمن الثقافي (الحلقة الرابعة: في مهب رياح التمركس والأسلمة)
ما أن نزل الطلاب إلى شوارع باريس في ماي 1968 وقد احْمَرَّت أفكارهم حتى انطلقت أحلام تلاميذ مدارسنا وطلاب جامعاتنا ترسم معالم مغرب دون فوارق طبقية يسود فيه العدل والمساواة ويَنْتَفي منه الاستغلال، وقد تأهبوا جماعات لمواجهة القهر والظلم والطغيان. وسرعان ما انتصبت مآذنهم داعية إلى مراجعة شاملة في النظرة للأصول التي تُعَرقل المسارات، وتنصيب أقطاب ثقافة جديدة لها مدارس في مختلف الأوطان، بدءا من ألمانيا وروسيا إلى الصين وجنوب شرق أسيا وأدغال إفريقيا وبلاد البلقان وأمريكا اللاتينية.
فكم من أوطان أفلحت بفضل أنوار هذه الثقافة الجديدة في تحصيل حقوق أبنائها، وتعديل العلاقات بين مكونات مجتمعاتها، فانطلقت سريعا في ميادين التصنيع نحو آفاق التنمية؟ وكم من شعوبٍ اقتَبَسَتْ منها قبَسًا فرسمت معالم الخلاص من أعتى قوى الاستعمار، مُكَبِّدة أفدح الهزائم للغُزاة؟ وها هي ذي الدول التي ارْتَوَت من مَعِينِها قد انتشلت ملايين الخلق من براثن الفقر والمجاعة لتحتل سريعا مكانة مرموقة بين كبريات الأمم؟
أما الحَالِمُون منَّا فقد استغرقوا في الحُلم يُرَدِّدودن المقالات ويَرْفعون الشِّعارات ويفتحُون النِّقاشات، وقد انتهى بهم المسار في كوابيس مُزْعِجة. ولا يخفى كيف انتهى المطاف بالجَهَلة من هذا الصِّنف في كثير من بقاع العالم، حيث اتخذوا الفكر عقيدة، إلى تخريب بلدانهم وتفكيك أوطانهم وتشريد أهلهم ومحو آثار حضارتهم، ومنهم من ارتكب أفظع الجرائم بإبادة الملايين من أبناء جلدته، ومنهم من ارتكب الحماقات فنزل إلى شوارع بلده يُخَرِّب بالدبابات منازل أهله، ومنهم من رهن مصيره بِيَدِ الحاقدين والمُتَرَبِّصِين يمينا ويسارا، وقد تآمروا لإشعال الحرائق في خيامه.
وإذا كان الحالِمُون منَّا قد استيقظوا من سُبَاتِهم وقد دفعوا الثمن غاليا من حُرياتهم وأرواحهم في سبيل كرامة المواطن ورُقي البلد، فها هم المُتَمَرْكِسُون من مُقتَنِصِي الفرص يُعيدون خلط الأوراق، فلا تكاد تُمَيِّز فيهم بين الخادِع والمَخْدُوع. فمنهم المُتَسَلِّلون إلى المواقع، وما عُرِف لهم أثرٌ أيام الشِّدة، قد موَّهُوا مُخَادِعِين بمآثر غيرهم مُخْتَلِسين سِيرَة الأبطال، فترَبَّصُوا لقضاء حوائِجهم ونيْل ما اسْتطاعوا ابتزازه من قِطَعِ الكعْك. ومِنْهم المُلتزِمُون بفتْح النقاشات الحَلزونية التي تدور في حلقات مُفْرغة غاية ما تُسْفِر عنه وَجعَ الدماغ، وكلَّمَا اختلفوا تشَرْذَمُوا شِيَعًا.
أما وقد جرَّبْنا كافة المسالك المُقتبَسَة من تواريخ غيرنا بعدما أذاقت ضُعفاء أهلنا أصناف المذَلاَّت والمَهَاِلك، فهل يجدُر أن نخرج من عصرنا وننكفِئَ مُخْتَبئين في عباءات السَّلَف؟ ولا حَرَجَ عمَّن تاه عن الأصُول فاحْمَرَّ أو ازوَرَّ ثم عاد فاخْضَرَّ أن ينتَسِب "إسْلاميا"، وهو النَّعْت الذي كان قدامى أهل القلم المغاربة يُطلِقونه على الحديثي العهد بالإسلام من اليهود والنصارى، الذين أنعم الله عليهم بهدايته فاختاروا الالتحاق بالأمة المحمدية.
أما بخصُوص العِبَادَات، فما صمَتَتْ مآذن المغرب يوما عن الدَّعوة للفَلاَح. وفي المُعَامَلات، ظلت مُدَوَّنات الأحوال الشخصية مُسَايِرَة لمقتضياتِ مذهب مالك المُتَجَدِّدة ببلادنا على مدار إثني عشر قرنا مضت، وقد سبق لأحد عظماء وحُكماء مغربنا أن صرح خلال القرن الرابع الهجري (10م) بأن الاستمساك به نجاة من الغلوّ الفكري والتشرذم الطائفي، إلى أن كادَتْ الأيادي المُسْتَخِفَّة تُغَيِّرُ الكلامَ عن مواضِعِه للزجِّ بالبلدِ في مُنْحَذراتٍ سَحِيقة، لولا لطائف العُقلاء. أما فيما عدا ذلك من الأحْكام، فأينَ هُمْ بينَ فُقَهاءِ عصْرنا ذاك الصِّنْفُ المُنقرِضُ من العُلمَاء الذين نالوا درَجة الاجْتهاد، بفضل تمكُّنِهم من علوم الدِّين، واسْتبْحَارهم في علوم الدُّنيا، وتَحَقُّقِهِم من دقائق الأمُور وأحْوال الناس المُتَشَعِّبة بداخل البلد وخارجه، حتَّى نَطْمَئِن لمَقالاتِهِم، ونَسِيرَ عَلى هَدْيِهِم؟
وأين نحن من ذاك الصِّنف الثاني من الفُقَهَاء المُقَلِّدِين، المُسْتَحْكِمِين لكِتابِ الله وسُنَّة نبِيِّه، المُسْتَوْعِبِين لمَا صَدَر عن فقهاءِ السَّلفِ من كافَّة المَذَاهب، العَارِفِين بمَقالاتِ الفِرَق، القَادِرِين عَلى مُقَارَعَةِ أهْل الدِّيَانَاتِ السَّمَاوِية والمَذَاهِب المُتَبَايِنَة بحُجَّة النَّص وبُرْهان العقل. أما أن نَسْتَلَّ آيةً من هُنَا، ونقتَصَّ حديثاً من هناك، وقولاً لصحابِيٍّ وأثرًا لبعضِ التابِعِين فنَبْنِي نسقًا علَى هوَانَا، ثم نعود وقد تغيَّرت أهواؤُنا فنبنِي نسقًا آخرَ ولا نسْتَحيي من تناقض الأنسَاق، فذاكَ التَّخَبُّط بِعَيْنِه.
أما أن يتم الخلط بين مستوى العقيدة والإيمَان يُنَاجي بهِمَا المرءُ خالِقَهُ، ومستويات الفقه والأحكام ينظِّمُ بهِما شؤونَه، وتشَعُّبَات المِلل والنِّحَلِ والأهْوَاء والفِرَق ينتَحِلُها مَطِيَّة للاسْتِفْراد بالحُكم، فذاكَ من ألاعِيب السَّاسَة المتأسْلِمِين لدَرْءِ جهْلِهم المُرَكَّب على كافة المستويات المذكورة. وقد يضْطرُّهم الحَال إلى الاستعانة بما قرأوه ضمن كتيبات مدرسية عن تقصير الهِنْدَام وتحليق الشوارب وإطالَةِ اللِّحِي، تقرُّبًا لعامة الناس ممن لم ينالوا حظا من العِلم، تمْهِيدا للزجِّ بهم في دهَاليزهم المُظلِمة. ولا يخْفَى عمَّن أرادَ التشبُّه بالمُصْطفَى الأمين، ما كانَ عليهِ من ﴿خُلُقٍ عظِيم﴾.
وكمْ هي نكراء دعاوى مُسَوِّسينا من كافة الألوان، وهمْ يتبجَّحُون باختلاف مرْجِعَياتِهم، فهذه مرْجِعيَة اشْتِراكية، وما اقتنعوا بها يوْما، ولا أخَذُوا بمبَادئها في شيء من أحْوالهم، ولا يفقهون مِنها غير كلماتٍ ملأوا بها بياناتِهم، يُرَدِّدُونها أناشيد ومَحفُوظاتٍ. وهذه مرجعية إسلامية ينتقلون بها رأسا إلى بوادي الحجاز وأحيار الكوفة ودروب البصرة ليَعْرُجوا على البُوسْنة فأفغانستان. وهذه مرجعية ماركسية تعود القهقرى إلى تجربة الروس في مواجهة الترِكة القيْصرية بإديلوجية حق الشعوب في تقرير المصير أو مقولة الصِّراع الطبقي، إلى ما عدا ذلك مما سطَّرُوه في كُتيِّبات بئيسة. وها هو ذاك الصنف الردئي من الساسة من مختلف المرجعيات لا يترددون لحظة عن بيع ضمائرهم لمن يدفع أكثر، وخيانة الأمانة بِرَهْن أصوات المواطنين الذين ترشحوا باسمهم، وإفراغ الديموقراطية من محتوياتها وقد كافح المخلصون بحرياتهم وأرواحهم من أجل ملامستها، مُحوِّلين المؤسسات المنتخبة إلى ما يشبه سوق النخاسة، مشوِّهين أنفسهم بين المواطنين.
أما حاضر البلد وماضيه ومستقبله ومحيطه المحلي والدولي وآفاق العمل في الناحية والضاحية وفي الحارة والإقليم والجهة، فما سبق لأحد من هؤلاء المُرشَّحِين لتدبير شؤوننا أن اختبر بُنْدًا من المرجعيات المذكورة لفك الطلاسم واستكناه الخبايا وتلمس المخارج ورسم مُنْحَنيات الخلاص. ولِمَ وجعُ الدِّماغ؟ وقد تجلى بأن البَرَكة كل البركة بمقاييس المنتفِعين في تلطيخ المسامِعِ بالعموميات، إذ تكفي للإمساك بالكراسي ونيل الامتيازات. فإذا كانت الكلمة المفتاح: "سياسة القُرْب" تجدُهُم جميعا يردِّدُونَها، لا يكاد يخلو خطاب وزير أو زعيم أو مدير منها. وإذا كان "التحْسِيس" هي الكلمة المفتاح فالكلُّ يردِّدُها، وما تساءل أحد يوما هل تطابق في المبنى والمعنى مُرادفها في لسان فولتير. وإذا كانت كلمة السر: "التنمية البشرية!" ساروا يلوُونَ بها الألسنة إلى حد إفراغ كافة قواميسنا السياسة من أي معنى.
وها هي ذي العبارات الممسوخة من شاكلة "الحِكَامة" و"التعْبئة" و"الأسْلمة" و"التخليق" و"التوْعية" و"التقدمية" ..إلخ، المقتبسة عن أبنية الغير بما لا يُطابق تراكيبنا، ولا يوافق منطوقها النظري مفعولها العملي، تستهوي الخطباء من كافة المرجعيات، يتخذونها لازمة في أحاديثهم الخشبية. ولا يخفى ما تنِمُّ عنه هذه العبارات وأمثالِها من احتقار جهلة المُتَعَلِّمِين لعامة المواطنين، بإيحائهم مَكْرا أنهم قد تواضعوا من عليائهم لملء أوعية المواطنين الفارغة وإنارة قلوبهم المظلمة وتعْبِئتِهم سِلَعًا للتجر بها في أسواقهم الانتخابية أو مَعَاوِلَ هدْمٍ في مشاريعهم التخريبية. وما عسى أن يكون هؤلاء الذين استَحْكَم الكسَل في طبْعهم والارتجال في نَهْجهِم والعجز عن مُشَارَفة أدنى أفُقٍ، سوى ثقب في رقعة شطرنج رثة.
ولا يخفى عن مُطَّلِع كيف انطفأت الأنوار بديارنا منذ أن تخلينا عن الكتاب والحكمة واستمسكنا بفقه القيل والقال، نُمَزِّق دفاتره حينا ثم نعود إلى نفض الغبار عنها، فنلوي ألسنتنا بالذكر، ونحن صمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ عن إدراك آيات الله الساطعة. وكان أجدادنا قد أدركوا، خلال القرون العِجَاف الخالية، عُمْق الهُوَّة بين الظلمات التي ما فتئت تزداد حُلكة حولنا والأنوار المتلألئة لدى غيرنا، فعمدوا إلى الإصلاح باعتماد أقوال وأعمال السَّلَفِ، وأوراد العُبَّاد والصالحين، والتماس قبسٍ من أنوار الحداثة. إلاَّ أنَّ رَحَى الانهيار وعُمْق الاختلال كانا أقوى من دعاوى المُصْلحين، فهل من مُعْتَبِر بين هؤلاء المتأسْلِمين؟
وها هم آباؤنا قد ذاقوا طُعْم الحنظل بالأمس القريب، بعدما دارت الدائرة عاصفة بالأحلام، على إثر خمود الرياح الإفرنجية الثلاثية الألوان التي طالما بشَّرت على لسان سَدَنَتِها بقرب الانعتاق من التخلف والالتحاق بالعصر، إذا نحن طَمَسْنا هويتنا وركِبنا قطار الآخرين. وها نحن اليوم نُشَارِف الشلل، بعدما هَمَدَت الأمواج الحمراء المتلاطمة على ديارنا، وقد ظلت تَزِنُّ في آذان شبابنا مُبَشِّرَة بحرق المراحل وتحقيق أقصى درجات التقدم، إذا نحن اقتلعنا جذورنا وهدَّمْنا ما تبقى من خرائبنا المُهْتَرِئَة. فما عسى أن يفعله التاجر الفاشل وقد بارت تجارته وانْخَرَمَت به السُّبل سوى مراجعة دفاتره القديمة، ناكصا بسراويله نحو الدهاليز المُظلمة؟
ومع خُلُوِّ عصرنا من الفقهاء المجتهدين، وخفوت أصوات ذاك الرعيل المتبصِّر من فقهائنا المقلدين، وجفاف أقلام العلماء عن لفظ أنوار المعرفة، ونضوب مجالس العلم والمناظرة، وإتلاف خزائن الكتب وتشتيت نوادرها، وانصراف الهِمَم عن الارتواء من معينها الزاخر بأصناف العلوم، ونكوص الجامعات ومراكز البحث نحو الهوامش الضيقة، من الطبيعي أن يكتسح الفراغ فضاءاتنا ويتسع الخَرْق. وها قد انتصبت المآذن في كل زاوية متشعِّبَة الأهواء مشدودة الأبواق إلى الخَلْف، وقد ضجَّ الدُّعاة المرتزقون وأصحاب الرأي والرأي الآخر بالشهيق والنهيق، وهم بكل وادٍ يهيمون، يقولون ما لا يفعلون، ويزرعون الأحقاد، ويُحَرِّكون الأشجان، ويضعون الأقفال وينحتون الأصنام، فالويل كل الويل لمن خرج عن الطريق الذي سَطَّرُوه بالقيل والقال ونسبوه إلى العلي القدير، جلت قدرته وتعالى عما يَسْطُرُون.
الحمد لله أن ظلت تلاوة القرآن والصلاة على النبي راسخة بمساجدنا وكتاتيبنا في البوادي والحواضر بفضل الحُفاظ المُسْتمْسِكين بنهج الرعيل الأول من أهل الاستقامة والاقتداء. والشكر لله أن ظل المغاربة مستمسكين بإمارة المؤمنين نظاما متوارثا في أحكامهم السلطانية على مدار ما ينوف على اثني عشر قرنا. إلا أن الهاوية ما زالت سحيقة المنحذرات تحت أقدامنا، وقد انتصب العامة من أهلنا للذَّوْدِ عن العقيدة نيابة عن ذاك الصنف من "علماء الأمة" الذين أجَّرُوا أقلامهم ورهنوا أصواتهم وفرَّقُوا دينهم شيعًا. فبما عسى أن يذود عامتنا من الفقراء والمُعْوِزِين والأمِّيين والمغتربين عن البيضة؟ وبما عساهم أن يقفوا في وجه الجبروت ويحتموا من زمهرير الرياح العاتية؟ ليس في وُسْعِهم وقد ضاقت معارفهم ونضبت أرزاقهم وافتقرت أحوالهم إلا أن يعملوا على إثبات الذات كما اتفق، وإن بإسدال اللحي وقصّ الشوارب وتقصير السراويل بالنسبة للذكور، والاندثار في الشوادير بالنسبة للإناث.
يا لها من صورة لحضارة عريقة عمرها أربعة عشر قرنا من العطاء قد اختُزِلت في زيٍّ ولُخِّصَت في هندام! وها هم المتربصون من كل الأصناف يستدرجون عوامنا بالآيات الشيطانية ويستفزون عواطفهم بالصور الكاريكاتورية ويثيرون غضبهم، حتى يستمتعوا بمشاهدة وقع انحذارنا نحو الدرك الأسفل، أملا في تحويل مكونات أمة بأكملها إلى مواقع فُرْجة.
ليس هناك أخرق من الدعوة إلى تعطيل عُقول عامَّتنا والعمل على سَلْب إرادتهم وجعلهم خَوَلا مُنقادِين، لا يَعْلمون مصائرهم، ولا يُميِّزون صديقَهُم من عدوِّهم، ولا مُرشِدُهم من مُظِلِّهم. ومن المعلوم لدى الحُكماء وفي كافة الديانات السماوية أن العَقْلَ هو أسمى ما أنعم به الله على عِباده، والعِلمَ هو أقرب المسالك إلى إدراك مكامِنِ عظمته، والتقرب بالعبادة هي أفضل الرياضات للنفس حتى تنسجم مع نواميس الحياة وطبائع الخلق.
وليس هناك أفشل مِمَّن يقف فاغرا فاه أمام تحولات العصر، يكاد لا يفقه ما يدور حوله، فيَنْتَكِسُ لائذا بنُتَفٍ مُقْتبَسَة من أقوال الصحابة والتابعين، ونُبَذٍ مما تناقله الرواة عن رشيد أعمالهم، مسْتنجدًا بالسلف كي ينوبوا عنه في مقارعة ما أصابه من أهوال. وليس هناك أخسّ ممن لا يتوَرَّع عن التمَعُّش من خزائن وبيوت الأموال بِبَتْر آيات من كلام الله وأقوال رسُوله وسُنن أنبيائه لكي يُعيد تركيبَها في سياقات مُبْتدَعة، ليُرْدِفَ ذلك بسيل من الدَّعَوَات. بئس الداعي وقد ملأ الدنيا ضجيجا بأدعيته غير المستجابة، لعَدَمِ إخلاص العمل وصِدْق الطوية، يكرِّرُها على مدار الأيام والشهور والسنوات والعُقُود بما يدعو إلى الإشفاق من حاله ومن أحوال عامَّة المقصودين بدعواته.
ومن الدعاة المتأسلمين وقد انتشروا كالفطير صنفٌ لا يتوقف عن فتح جراح الماضي الغائرة في جِسْم الأمة المنهوك بكثرة ما سال من دماء طاهرة في موقعة الجمل وفي صفين وبعد التحكيم وبكربلاء وفي فخ، إلى ما يند عن الحصر من خلافات الماضي، مُسْتنْجِدين بمقامات السلف ومكارم أخلاقهم في صياغة أهراماتهم فوق أعناق العامة، بما قد يُحَقق توازن الرُّعْب مع أهرام الجيران، مُصْطفين سُنَّة وشِيعَة استعدادا لاستئناف معارك الأجداد، وإن تحت أنظار الشامِتِين ممن يستهويهم التفرج على دِمَاء أبنائنا مِهْراقة بسيوف بعضهم البعض، وكأنهم لم يفقهوا قوله تعالى: ﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شِيَعًا لست منهم في شيء ﴾. بئس المصير، وقد منعوا على عامة المُسْلمين في مشارق الأرض ومغاربها حتى فرحة العيد مُجْتمعين، وقد ربطوا قراره بدواوينهم الخرْقاء، بدلا عن هيأة علماء جامعة بيدها مكتبُ أرصاد.
ومِن النُّخَب بمغربنا من تلقى العلوم الأصلية والعصرية في الجامعات والمعاهد العليا إن لم يكن قد حاضر فيها، ولا يخجل من السجود على غرار عامة المريدين لمشايخ الطريقة وتقبيل أيديهم والمشاركة في الحضْرة. ومنهم المنافقون المسْتَخِفّون بكلام الله وسُنَّة نبيه، وقد وصلت ببعضهم الغِوَايَة إلى حك جباهِهِم حتى يعتقد العوام أنهم المقصودون بقوله تعالى: ﴿ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ﴾. ومن المتعلمين والمتعلمات والموظفين والموظفات من نال حظا من العلم والمعرفة، إن لم يكن من الحكمة والفلسفة، قد امتسخ عقله بالوقوع في شِباك السحرة والدجالين والمشعوذين فيؤذي نفسه وأهله جالبا لمجتمعه فضائح مُخزية. وها قد تضاعفت أعداد المُسْتَغْفِلين لنا جميعا، المُسْتَهزِئين بمؤسسات البلد، ممن ينفخون في ملفاتهم الفارغة وتراجمهم الهزيلة بشواهد ممنوحة ودبلومات مفتعلة وصفات منتحلة وأعمال ومهرجانات مصطنعة وما إلى ذلك من المسرحيات المفضوحة، تمهيدا لطلب مناصب رفيعة أو تقلد أعمال جليلة أو ترؤس مؤسسات مشهودة، وما عُرف لهم سابق تكوين ولا ممارسة مفيدة ولا قدرة على التسيير.
وهاهم الآلاف من شبابنا المتخرجين من المدارس والجامعات العصرية يستغرقون زهرة أوقاتهم أمام الحواسيب مَزْهُوِين باكتساب الحسنات، ليس بالكد والعمل ولا بالمثابرة والإخلاص ولا بما يقربهم من الخالق ويعود بالنفع والصلاح عليهم وعلى ذويهم، وإنما بمضاعفة نشر الأدعية والأوراد المبتورة والسنن المرسومة والكلمات المسبوكة
والتُّرَّهَات المخرومة كأنهم حديثي العهد بالإسلام، يُحَرِّضُهم المعتوهون ممن لا يفقه عِلمًا ولا يُحْسِنُ عمَلا، وقد أفلحوا في شلِّ إرادتهم بتحذيرهم من سوء العاقبة، إذا هُمْ عمدوا إلى تشغيل عقولهم.
بلغ خلط الحابل بالنابل من طرف المتأسْلِمِين، مع ركود مياه المستنقعات بديارنا، أن غدا شبابنا صيدا مُسْتَدْرَجًا للوقوع في شِبَاك المُتَحَرِّكين في الظلام من الجماعات المُنْعَزلة وأذناب الأجهزة السِّرية وتجار الأسلحة ومافيا المخدرات والمتربصين بمستقبل الأمم من مختلف الأصناف. فما أن تتحرك رحى التغيير في مُسْتنقع بلد من البلدان المُخْتلة، حتى تتداعى الخيوط المتشابِكَة تُحَرِّكُها الأيادي الخفية وتنفِّذُها سواعد أبنائه الفتية تحت يافطة الأسْلَمة والدعوة للجِهَاد. وفي كل مرة تنفجر القنابل مُجَاهِدَة في أجْسَادِ أهلنا، وتتحرك معاول الهدم في ديارنا، وتمتد أيادي النهب إلى ثرواتنا، فنعود القهقرى إلى عصور الجاهلية.
وليس من قبيل المصادفة أن تظل رحى الهدم والقتل والتفجير والتشتيت والتفتيت دائرة باسم الإسلام فيما كان بالأمس نِبْراسا للمعارف والعلوم ومصدرا لأنوار الحكمة، بدءا ببلاد ما وراء النهر وأطراف الشام وبلاد فارس نحو البلقان فالصومال والعراق والجزائر واليمن في اتجاه بلاد السودان. وها هي ذي فتائل الفتنة تتربص من حين لحين بأرض الحجاز وبلاد مصر وأطراف المغرب، وقد عمَّت الحرائق واستوى الخراب وسالت الدماء وِدْيَانا من تخوم الهند والصين إلى أبواب المغرب والأندلس. فليتيقظ أهل المغرب الأقصى لِمَا يُحَاك لبلدهم الآمن، لعَلَّهُم يُحافظون على بصيص أمل بعودة أشعة الشمس إلى النفاذ من جديد نحو ديارنا.
ليس لنا من سبيل لاستعادة بعض مكانتنا بين الأمم إلا بالشروع توا في مراجعة ذواتنا واستعادة الثقة في أنفسنا وإعادة ربط حاضرنا بجذورنا وفك الارتباط برسم المسافات مع من دأب على قهْرنا ومحو خصائص هويتنا وخلخلة بِنْية مغربنا، حتى نحظى بما نستحقه من احترام جيراننا الذين سيسعدون بالعودة كما كانوا أيام عِزِّنَا على اختلاف أديانهم وأوطانهم إلى التعايش معنا إن لم يكن الانتساب فينا. ولا يُتاح ذلك بحرق المراحل بين يوم وليلة، كما دأب على تصوره قِصار النظر من المُسَوِّسين، والسائرين في الركب من المَحْظيين والأبناء المُدَللين، والمُهَرِّجين وأصحاب الامتيازات ممن لا يتورع لحظة عن نخر البلد لتحقيق مآربه وفتح المسالك لتسرب أهله وأقاربه في دواليب الإدارة والسياسة مثل جَرادٍ يتبعه المَرْد، بل بالمثابرة والعمل الدؤوب وطول النَّفَس.
وهو العمل الذي يُفترَض أن يُنجِزه ويسهر على سير أوراشه المُخْلِصون من ذوي الكفاءات، وأن يتجرد المسؤولون تحت طائلة العزل والمصادرة بحكم موقعهم في أجهزة الإدارة والقضاء على سَدِّ المنافذ في وجه ذاك الجيش العرمرم من المُتكاسِلين والفاشلين واللصوص المُتَمَرِّنين في أصناف المكر والخديعة والمُتَمَرِّسين على تبديد طاقات البلد ونهب ثرواته وخيانة الأمانات. ولا مجال لترسيخ ثقافة المُوَاطنة، إذا ظل المواطن فاقدا لكرامته يرشي ويرتشي، مُتواطِئا مع الموظفين الفاسدين على هدر حقوقه، مُتجاوِبا مع السَّحرة والمشعوذين في التخلي عن دينه، مُنْسَاقا مع الدُّعاة المتآمرين على سلب إرادته وتمزيق هويته، مُنْقادا لفقهاء القيل والقال المُعَطِّلين لعقله. فإن اختار البقاء على حاله مذلولا، ظلت المنزلقات له بالمرصاد عند كل كبْوَة، مهد دة مصير البلد بالانجذاب على غرار هذه الأوطان المتشرذمة حولنا في أتون الهاوية نحو مستنقعات الفتنة.
أملنا أن تتلاقح البذور الطيبة وتتظافر جهود العُقلاء على عزل أورام السرطان القاتلة، لينْفَسِح المجال أمام أبنائنا للشروع بكدِّهِم وطمُوحِهم في طلب العُلا. (يتبع في حلقة خامسة)
الدكتور أحمد الطاهري
أستاذ التعليم العالي مختص في تاريخ المغرب والأندلس
إشبيلية في 29 نوفمبر 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.