يصر أهل الريف جيلا بعد جيل على واجب حفظ الذاكرة من النسيان والطمس. وتكاد هذه الذاكرة الموشومة بتمثلات الظلم، القمع والعنف اللامبرر والزائد عن حده من طرف المخزن، أن تكون موحدة بين كل الريفيين وعابرة لجغرافيا كل الأمكنة والأزمنة . لذا فالكثير من أهل الريف يحرصون أشد الحرص على ما يعتبرونه واجب الوفاء للأجداد من خلال تلقين ونقل السرديات الكبرى للذاكرة الجمعية ولصدماتها العنيفة لأبنائهم، وذلك في إطار فعل التذكر تحت شعار "تذكروا" (Souvenez-vous). وهذه السرديات المحلية تؤثث مخزون الريفيين التاريخي والاجتماعي والنفسي برموزها وطقوسها وإستراتيجياتها الخاصة لمقاومة السرديات الوطنية الاحتوائية المفروضة. ويتحول الاستدعاء المشترك للماضي إلى منبع لهوية متعالية تعبر عن كينونة الاعتزاز والفخر بالذات الجماعية وعن امتلاك جمعي للذاكرة؛ وهذا ما عبر عنه الصحافي نور الدين مفتاح بشكل ذكي حين قال: "خصوصية الريف أن الذين يتحركون فوق الأرض لهم علاقة لا شعورية مع الراقدين تحت التراب..هناك نوع من الشموخ التاريخي المنكسر". الذاكرة الجماعية بالريف تشتغل باستمرار وتتحول إلى مصدر تطهير وتفريغ نفسي وجسدي (الكاتارسيس)، وتوظف بشكل فاعل في بناء هوية تعبوية متماسكة تلتحم بشكل عفوي مع قضايا الزمن الراهن. والصلة حميمية بين هذه الذاكرة وبين لحظات إنتاجها وإعادة إنتاجها واستحضارها. ونجادل بأن المشكلة كونها ذاكرة مجروحة بقوة ويصعب أن تلتئم جراحها وأن تعلن القيام بالعزاء والحداد، لكنها أيضا ذاكرة قائمة على تفسير ذاتي لمجموعة من الأحداث التاريخية التي عرفتها المنطقة، لهذا فأهل الريف يميلون إلى تسييج مخيالهم التاريخي الرمزي والانغلاق على مأساتهم الخاصة. ويوضح بن أحمد حوكا، الباحث في علم الاجتماع السياسي، أن تاريخ الريف والذاكرة الناتجة منه، هي ما يفسر التلاحم والتعبئة الاحتجاجية في بيئة اجتماعية تجعل من انجراح الذات الجمعية أداة وجدانية ومعرفية لتجاوز معيقات الفعل الجمعي، فالتاريخ يشتغل هنا كمسودة كامنة للالتحام الاجتماعي في أوقات الشدة. وعلى ما يبدو، فالتهميش الاقتصادي الممنهج للمنطقة غير كاف لوحده لفهم عميق للديناميات التي أفرزها الحراك، ولا يمكن أن نفهم حجم الحنق والسخط والتوجس من كل الوسائط المؤسساتية للدولة لدى الشباب وشعورهم الحاد بالظلم والحرمان والتهميش الاجتماعي دون استدعاء التاريخ الذاتي للريف وحروق الذاكرة بما راكمته من ترسبات نفسية على مستوى وجدان أهالي الريف ومخيالهم الجمعي. يقول "ل. م": "المخزن حتى ولو خلطته ومزجته بأحسن عسل حر لا يمكن استساغته.. عقدة الريف مع المخزن كامنة في التاريخ"، (رْمَخْزَنْ وَخَا ثْخَلْطَتْ إِكْ ثَمَنْتْ تَحُرِثْ وَزَمَّا أَذِغْرِي، لْعُقْدَ نَاريِفْ إِكْ رْمَخْزَنْ أَقَتْ كِ التَّارِيخْ)، ويضيف "ن. أ": "حتى ولو جاؤوا بمصانع وفرص شغل، وحتى لو حولوا الريف إلى موناكو لن يحل المشكل.. على المخزن أن يبدأ بالمصالحة مع تاريخ الريف ورد الاعتبار المعنوي لأهله، آنذاك ستحل بسهولة كل المشاكل الأخرى". ولعل الحضور البارز لأيقونة الزعيم التاريخي للريف والمغرب محمد عبد الكريم الخطابي ولعلم الريف (باندو ناريف) في قلب المسيرات الحراكية، وتأثيث العديد من مقولاته للشعارات المرفوعة خلال الحراك، مؤشر واضح على ما يعتبره الشباب "وفاء الأحفاد لروح الأجداد"، وبالخصوص "مولاي موحَنٌدْ"، الرمز الحي الذي يسكن قلوب وذاكرة الريفيين. "روح مولاي موحند ما زالت تحمينا من حكرة وقمع المخزن، إنه الجدار الذي نحتمي به كلما أحسسنا بالظلم نستنجد به ونرفع صوره ونستلهم أفكاره، ذلك يمنحنا القوة ويجعلنا نغيض المخزن ونُهَيِّجَهُ (أَثْنَسْمُوزَا)"، هكذا علق أحد شباب الحراك على حضور صوره في مسيرات الحراك. محمد سعدي / أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول بوجدة