تنطلق هذا الأسبوع جلسات استنطاق ناصر الزفزافي أمام القضاء الجالس بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، محاكمة من المرتقب أن تشد انتباه المتتبعين منتظرين سردية ناصر، في هذه الأجواء أعرف جيدا أني سأنزوي كثيرا رفقة عمي / عيزي أحمد الزفزافي “لنقترف” ما يسميه ببلاغته الساخرة “النميمة الخلاقة” ، هذا الرجل الاستثنائي الذي يتعالى على الجرح واللحظة الخانقة بشموخ الكبار، يقترب من صورة البطل الإشكالي كما صوره جورج لوكاتش، لينفلت منها، فتحسبه معادلا موضوعيا للبطل المأساوي في نسخته النيتشوية المتعالي على أخلاقوية الكاتارسيس، فلا خوف ولا سعي لشفقة ممنوحة، مدركا أن كل ممنوح خادع أو ملغوم من الدستور حتى المشاعر، وهو الذي يقول “إن الحياة مسلسل لا نهائي من الفخاخ، لا تتخلص من أحدها، حتى ينتصب آخر، ومن الفخاخ ما هو مهيأ للقبض عليك وخنقك لكي تستسلم، لكن منها فخاخ ملغومة هدفها تدميرك”، هكذا يستضمر عمي أحمد الزفزافي العود الأبدي لنيتشه، والعارف بسيرة الأسرة الزفزافية منذ الجد اليزيد الذي كان مرافقا للخطابي وكاتب مراسلاته يعرف هذا القدر المأساوي للعائلة،، مأساوية عوليس المقاومة لا مأساوية جاك لوفاطاليست المستسلمة … يسخر أحمد الزفزافي من متوالية “النكبات” المتلاحقة، فبعد اعتقال ناصر، سيخرج عفريت “الكوارث” من قمقمه: ناصر معتقل، وخالتي زليخة (زوجته) يحين دورها لتصاب بلعنة الريف (السرطان)، وابنه لطفي سيهاجر لأرض العدل الواسعة فيما وراء البحر، وآخر العنقود محمد (المعروف بالحكومة) سيصاب بالفشل الكلوي، يعلق عمي أحمد : ” لا شك أن المخزن لا ترد دعواته”، هكذا يقاوم تحالف “القدر” و “المخزن” عليه.. إنه التجسيد الواقعي لعبارة محمود درويش :”نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا،،” لكن الوجه الخفي /الحقيقي الذي كان مختبئا وراء إرغامات تدبير المعيش اليومي، وجاء حراك الريف ليزيل القناع عنه، هو وجه أحمد الزفزافي المؤرخ، لا مبالغة في الأمر، وعتابي له أنه لا يريد أن يتجاوز عتبة المؤرخ الشفهي، الذي لا يبوح بخزائن سروده ووثائقه إلا لدائرة صغيرة من محبيه في جلسات بوح نادرة، وغالبا ما أمازحه ملمحا لضرورة قيامه بواجب الوفاء للذاكرة : “يوما ما سأخرج شريطا عنوانه: ليلة القبض على عمي أحمد.. ” في جلسة حول كتابي “مذكرات المقاوم الهاشمي الطود” و”الهيئة الريفية”، ينبهنا الأستاذ الزفزافي بلمحة ذكية أن كتاب “الهيئة الريفية” ما هو سوى تجميع لوثائق سلمها بونعيلات لبنسعيد قبل وفاته، وهي تتضمن تصريحات مجموعة من المقاومين الذين كانوا مقربين من حزب “الشورى والاستقلال” ظاهريا، ولكن فعليا كانوا محسوبين على خط الخطابي، تصريحاتهم خلال جلسات الاستنطاق بعد إيداعهم الدائرة الأمنية “الساتيام” التي كان يشرف عليها في بدايات “الاحتقلال” حزب الاستقلال، مضمون هذه التصريحات أنه ثمة تنظيم سري “الهيئة الريفية” داخل حزب “الشورى والاستقلال” هدفه اغتيال محمد الخامس، يعقب عمي أحمد بعد هذا التوصيف : “لقد ضاعت الحقيقة التاريخية في أقبية الكوميساريات، كيف تتحول تصريحات انتزعت تحت التعذيب لوثائق تاريخية؟ فلربما تصبح محاضر الضابطة القضائية في ملف الحراك بدورها وثائق في المستقبل تساهم في تزوير التاريخ،،؟” يستأنف الزفزافي الأب حكيه بنوستالجيا أنيقة ” أتدري أن من بين من خضعوا للتعذيب في تلك الكوميسارية المقاوم حدو أقشيش الذي كان أول من أطلق رصاصة في جبال الأوراس كإعلان لانطلاق حرب التحرير الجزائرية، ولك أن تربط تشريف قادة المقاومة الجزائرية له بإعطاء انطلاق كفاحهم المسلح بمشروع مولاي موحند لكي تفهم كيف كانت البدايات وكيف هي النهايات،،” وحين أشاكسه بأن المخزن وجزء من الحركة الوطنية لم يحتكرا الرواية التاريخية إلا لأنهما احتكرا “الوثيقة” ، فضاعت السردية المضادة : سردية حرب التحرير وسردية المقاومة المسلحة في الجبال، وسردية الملتفين حول الخطابي تجربة وتنظيما ومشروعا.. يجيبني وخلافا لعادته في السخرية “الخلاقة” بدورها، ودمعة يحاول منعها من أن تنفلت : ” أتدري أن أخي الشهيد محمد الزفزافي حين كان مقيما بالقاهرة، كان كاتبا لمراسلات الأمير الخطابي وبمثابة مدير مكتبه، كما كان أبي هو الكاتب الشخصي للأمير إبان حرب الريف التحريرية، ولما عاد للمغرب تم اغتياله في طريقه للقصر الكبير، وبعد هذه الجريمة تم إحراق ثلاثين صندوقا من الوثائق والمراسلات كان قد أحضرها معه بعد عودته من المنفى من طرف باشا القصر الكبير بتعليمات من المركز، فكانت الخسارة مضاعفة: فقدان الأخ وضياع جزء مهم من الذاكرة، ذاكرة شعب،”،، الغريب أنهم بعد جريمة الاغتيال أضافوا اسمه للائحة المبحوث عنهم بعد أحداث مولاي بوعزة 1973 في مسامراتي مع الرجل يطرح أسئلة دقيقة للتاريخ تحتاج لعقل نقدي يفككها، من قبيل ” هل تتطابق الهوية الطبقية والثقافية لقادة الحركة الوطنية ولجزء من قادة جيش التحريرمع مثيلاتها عند القواعد التي كانت حطب الثورة والمقاومة؟” “هل للخيانة ماهية تتحدد بها أم تتحدد بوظيفتها؟” ويعطي مثالا بالجبلي “اخريرو” الذي وشى بزعيم جبالة الشريف الريسوني وسلمه للأمير الخطابي؟” إذا كانت الأحزاب السياسية جزء من المشكل لا من الحل، حتى بالنسبة للدولة، فلماذا هدر المال والوقت والمادة الرمادية في ديموقراطية الواجهة التي تسقط مساحيق تجميلها بسرعة عند أول مشكل ولو كان بسيطا؟. عمي أحمد الزفزافي : أعرف أنك لا تحب الأضواء، لكن ماكتبته اليوم هو جواب على صاحب الجريدة اليومية والقناة الخاصة الذي تهجم على ناصر معيرا إياه بتاريخه في زعمه، ورأيتك يومها غاضبا، وكنت أعلم أنه نكأ جرح والدك وأخيك وابنك،، فرأيت من واجبي أن أقول : ذلك العنقود من تلك الشجرة،،.