كان أول من استعمل مصطلح الفرنكوفونية العالم الجغرافي الفرنسي أونزيم ركلو للدلالة على الدول الناطقة بالفرنسية، ثم أصبح هذا المصطلح فيما بعد يأخذ طابعا سياسيا بعد أن أقامت فرنسا باحتلال مجموعة من الدول خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين ومنها المغرب. رغم ما يروج من شعارات خادعة براقة عن الفرانكفونية، إلا أنها تظل تجسد أحد أقبح الوجوه الاستعمارية التي تهدد هويتنا وحضارتنا الإسلامية ولغتنا العربية، ولعل ذلك يحتاج إلى وقفة متأنية... فالفرانكفونية على صعيد الفكر والثقافة لا تزيد عن كونها نموذجاً من نماذج الاستحواذ الحضاري وغسيل المخ الجماعي للمجتمعات، بهدف إحداث انقلاب فكري في المجتمعات على المدى الطويل لصالح الثقافة الفرنسية وذلك على حساب القيم والثقافة التي اصطبغ بها المغرب منذ القدم. وتعود بدايات هذا النموذج من الاستعمار إلى البعثات التنصيرية التي دفعت بها فرنسا إلى الدول الإفريقية خلال القرون الماضية متسترة بالمعونات الإنسانية. وإثر انهيار الإمبراطورية الفرنسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية تبلورت فكرة الفرانكفونية لمحاولة استعادة المجد الضائع ولملمة العقد المنفرط، ثم أصبحت أكثر إلحاحاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتنامي الدور الأمريكي لمحاولة الهيمنة على العالم. والمراقب للأحداث يلحظ بوضوح أن فرنسا تسعى منذ سنوات لمحاولة ترميم إمبراطوريتها السابقة، إثر التراجع المهول الذي عرفته الثقافة الفرنسية ولغتها مقارنة بما كانت عليه سابقا وذلك بانتهاج سياسة ثقافية شبه عالمية محورها اللغة الفرنسية كعامل مشترك يجمع بين شتات مستعمراتها السابقة والدول التي انتُدبت عليها وتتخذ من تجمع "الفرانكفونية "الذي أصبح يضم 52 دولة يبلغ تعداد سكانها 450مليون نسمة من بينها خمس دول عربية هي: لبنان والمغرب وتونس وموريتانيا ومصر، تتخذ منه سبيلاً إلى ذلك، وتسعى من خلاله إلى التغلغل التدريجي في صميم الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية بل والرياضية والفنية للدول! وقد نجحت فرنسا من خلال الفرانكفونية في صناعة طبقة مثقفة في مغربنا تدين بالولاء والإعجاب بالنموذج الفرنسي، بل إن بعض أبناء هذه الطبقة أعلى من شأن الفرانكفونية مولياً ظهره لهويته. فالحديث عن الفرانكوفونية في المغرب، لايمكن فصله عن مرحلة الاستعمار الفرنسي؛ فلقد مرت الفنكوفونية بعدة مراحل، كان أولها المرحلة الثقافية حيث لجأت فرنسا خلال عهد الحماية والسنوات الأولى للاستقلال إلى استقدام مجموعة من أطرها لتلقين المغاربة اللغة الفرنسية وادابها وتاريخها، ثم تطور الأمر ليأخذ شكل مؤسسات ذات طابع مؤسساتي إما تابع للدولة المغربية ويخضع للوصاية الفرنسية أو يرتبط مباشرة بالمصالح الثقافية الفرنسية.
وهكذا وخلال السنوات الأولى للاستقلال شهد المغرب ظهور مجموعة من المؤسسات التعليمية والثقافية الفرنسية نذكر منها على سبيل المثال: مؤسسة ديكارت بمدينة الدارالبيضاء، وهي مؤسسة تعليمية تأخذ بالمناهج التربوية المعمول بها بفرنسا وكذلك مؤسسة ليوطي؛ والملاحظ على هاتين المؤسستين غياب أي اهتمام باللغة العربية التي كانت تدرس كمادة ثانوية. وبحكم أن الفرانكوفونية تبقى في جوهرها حركة فكرية ذات بعد إيديولوجي تهدف إلى نشر وتخليد القيم الفرنسية في كل مستعمراتها السابقة، فإنها في ظل النظام الجديد حاولت تقديم نفسها كبديل حضاري و مشروع سياسي واقتصادي وثقافي لمواجهة النفوذ المتزايد للولايات المتحدةالأمريكية في المستعمرات الفرنسية السابقة و التي كان من بينها المغرب، ولعل هذا ما يفسر أن فرنسا عملت وبكل الوسائل على إقرار اللغة الفرنسية كمادة أساسية تدرس بها كل المواد الدراسية مما جعل كل الحكومات السابقة تعجز عن إقرار تعليم وطني إسلامي. ثم تطور الأمر لتأخذ الفنكوفونية في المغرب طابعا سياسيا واقتصاديا حيث أصبح تولي المناصب العليا في الدولة متوقفا إلى حد بعيد على شرط التخرج من الجامعات والكليات والمدارس العليا الفرنسية وأصبحت اللغة الفرنسية، لغة النخبة المتحكمة في القرار السياسي والاقتصادي وبالمقابل تم تهميش اللغة العربية وإعتبارها لغة ثانية، ولضمان استمرار نفوذها السياسي والاقتصادي، عملت فرنسا على توجيه عقول المغاربة عن طريق ترسيخ سياسة لغوية تعليمية قائمة على فرنسة الأجيال الصاعدة، هدفها الأساسي القضاء على اللغة العربية بإعتبارها لغة حضارة عريقة، فكان دور البعثات الفرنسية المتواجدة بكل المدن الرئيسية في المغرب؛ حيث أنيط بها عملية فرنسة أبناء الطبقات الميسورة، وإعدادهم لتحصيل الشواهد الجامعية الكبرى واستلام المناصب العليا في الإدارات، ليلعبوا دورا في التنكر والعداء للحضارة العربية الإسلامية وربط المغرب وإلى الأبد بالمصالح الفرنسية. لقد اخترقت الفرنكوفونية كل مظاهر الحياة العامة في المغرب: الإدارات، المرافق العمومية، الشركات والمؤسسات الصناعية، التعليم، حتى أسماء الشوارع والمحلات التجارية تحمل الفرنسية. إن تغلغل الفرنكوفونية كحركة إيديولوجية بشقيها الثلاث: الثقافي والسياسي والإقتصادي هي التي أدت إلى ظهور طبقة من المثقفين تحتقر اللغة العربية وتتنكر لهويتها الإسلامية وتقدم منتوجا أدبيا وشعريا وروائيا، لايجد فيه االقارئإلا ما يمجد السقوط وكشف العورات، ككتابات الشرايبي، الطاهر بنجلون، محمد شكري..وغيرهم. لقد عملت كتابة الدولة المكلفة بالتعاون الثقافي بوزارة الخارجية الفرنسية، وعبر المراكز الثقافية والسفارات التابعة لها على المساهمة وبشكل كبير في دعم كل الجمعيات الثقافية والفنية الناطقة بالفرنسية لترسيخ الفرنكوفونية في المغرب على حساب جمعيات مغربية أخرى لها موقف من النفوذ الفرنسي على الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية.