إن اصلاح المشهد المالي العمومي رهين بمراجعة القانون التنظيمي للمالية العامة والترابية على حد سواء، وبمدى مواكبته للمستجدات التي تشهدها الساحة المالية لا سيما بعد التعديل الدستوري لفاتح يوليوز 2011، حيث يمكن القول بأن هناك علاقة جدلية بين المراجعات الدستورية التي شهدها المغرب وتعديل القوانين التنظيمية للمالية. لهذا شكلت مجموعة من الفصول المتعلقة بالمالية سواء العامة أو الترابية في دستور المملكة لسنة 2011 بنية أساسية في إرساء مبادئ الديموقراطية ودولة المؤسسات واحتكاما لمضامين الحكامة الجيدة للمرافق العمومية، المنصوص عليها دستوريا في الفصل 154 من الباب 12 الخاص بالحكامة الجيدة المرتكزة على معايير الجودة، المساواة، الشفافية، المسؤولية والمحاسبة. من جانب أخر نجد مجموعة من المقتضياة والمرتكزات المتعلقة بالمالية العمومية التي تم تكريسها كمبادئ ملزمة إجبارية لباقي قواعد التدبير المالي وفق الوثيقة الدستورية. لهذا فهدفنا محاولة قراءة مختلف النصوص الدستورية المرتبطة بالمالية بشقيها العمومي والترابي، وذلك بالإعتماد على محورين أساسين للوقوف أكثر على هذه المرتكزات الدستورية للمالية العامة والترابية. الفصل الأول: الحديث على مختلف النصوص الدستورية المتعلقة بالتدبير المالي العمومي، سواء على مستوى المبادئ المؤسسة للتدبير المالي العمومي أو بمختلف القواعد الدستورية المرتبطة بإعداد التصويت وتنفيذ قوانين المالية. الفصل الثاني: سنطرق فيه إلى مجمل المرتكزات الدستورية المتعلقة بالحكامة الجيدة للمالية، خاصة فيما تم القيام به حول جعل الجماعات الترابية شريكا في التدبير المعقلن والرشيد والناجع للموارد العمومية او بإرساء المبادئ الدستورية لضمان الشفافية، المسؤولية، المحاسبة والمراقبة في تدبير الموارد العمومية. الفصل الأول: مبادئ التدبير المالي العمومي في دستور 2011 وقواعده تتمثل مرتكزات التدبير المالي العمومي في دستور 2011 في مجموعة المبادئ المؤسسة للتدبير المالي العمومي، وكذا مختلف القواعد الدستورية المتعلقة بإعداد وتنفيذ قوانين المالية. المبادئ الدستورية للمالية العمومية في مقدمة المبادئ الدستورية المتعلقة بتدبير المالية العمومية نجد المساواة والتضامن في تحمل التكاليف العمومية. هكذا نص الفصل 39 من الدستور على :"على الجميع أن يتحمل، كل على قدر استطاعته، التكاليف العمومية التي للقانون وحده إحداثها وتوزيعها. كما أكد الفصل 40 من الدستور مبدأي التضامن والتناسب في تحمل التكاليف التنموية للبلاد، إلى جانب هذين المبدأين الأساسين، نجد مبدا شرعية التكاليف العمومية والتي لا يمكن إحداثها وتوزيعها إلا بمقتضى القانون. كما أن الفصل 71 من الدستور أكد على هذا المقتضى مما تم بتوسيعه لمجال القانون الذي أصبح يختص دستوريا بالتشريع في المجالات: * النظام الضريبي ووعاء الضرائب ومقدارها وطرق تحصيلها. * نظام الجمارك في نفس الإتجاه، أشار الفصل 55 من الدستور إلى أن المصادقة على المعاهدات الدولية والتجارية التي تترتب عنها تكاليف مالية تلزم الدولة تتم الموافقة عليها بقانون وطبقا للفصلين 39 و 40 من الدستور. من جانب أخر، اكد الفصل 77 من دستور 2011 بندا مهما في مبادئ التدبير الموازني والذي يعتبر مؤشرا على نجاعة التدبير المالي للدولة، ألا وهو مبدأ "التوازن المالي"، حيث ألزم البرلمان والحكومة على حد سواء بالحرص على الحفاظ على توازن مالية الدولة:"يسهر البرلمان والحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة". ولا تقتصر مبادئ التدبير الموازني والمالي للدولة على مبدأ التوازن وفقط، بل تتعداها إلى مبادئ أخرى، على قدر من الأهمية وهو "مبدأ السنوية" الذي يحكم قوانين المالية، مبدأ لا يحول دون إعتماد ترخيصات لبرامج ومخططات تنموية متعددة السنوات. وأن هذا المبدأ السنوي يستمد أساسه الدستوري من الفصل 75 الذي نص على: إذا لم يتم في نهاية السنة المالية التصويت على قانون المالية أو لم يصدر الأمر بتنفيذه، بسبب إحالته إلى المحكمة الدستورية تطبيقا للفصل 132 من الدستور، فإن الحكومة تفتح بمرسوم الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية للقيام بالمهام المنوط بها على أساس ما هو مقترح في الميزانية المعروضة على الموافقة، وكذا الفصل 68 في فقرته 4 الذي ينص على عرض مشروع قانون المالية السنوي في جلسة مشتركة للبرلمان بمجلسيه. القواعد الدستورية المرتبطة بالقوانين المالية يتم تحضير مشروع قانون المالية وفق مجموعة من القواعد الدستورية التي تحدد طريقة تحضيره، إيداعه، والتصويت عليه وتنفيذه، لكن يتم تحت مراقبة المجلس الاعلى للحسابات. فقبل إيداع هذا المشروع أي مشروع قانون المالية بمكتب مجلس النواب، يمر هذا الأخير بمحطتين اساسين هما: - المحطة الاولى يتم التداول في في التوجهات العامة لهذا المشروع، في مجلس وزاري يرأسه الملك ويتألف من رئيس الحكومة والوزراء. - المحطة الثانية فترتبط بمجلس الحكومة، الذي يعقد بدوره جلسة للمداولة بشأن هذا المشروع. وإذا كان مجلس النواب قد أصبح، طبقا لمنطوق الفصل 75، يحظى بالأولوية عند إيداع مشروع قانون المالية، أما على مستوى عرض وتقديم هذا المشروع، يتم في جلسة مشتركة للبرلمان بمجلسيه، وذلك طبقا لمقتضيات المادة 68 من الدستور، لكن بعد إيداعه وعرضه على أنظار البرلمان، تتم المناقشة ثم التصويت ليتم إصداره وفق شروط ينص عليها القانون التنظيمي. وبالنظر إلى طبيعته التقنية ولتعزيز المناقشة البرلمانية، نص دستور 2011 على وثائق ومعطيات ومعلومات ترافق مشروع قانون المالية، يتم تحديدها في القانون التنظيمي للمالية، كما هو منصوص عليه في الفصل 75 من الدستور. ومن المعلوم أن هذا المقتضى يرتبط بمبدا دستوري مركزي أشار إليه الفصل 27 من الدستور وهو حق للمواطنات والمواطنين في الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية والمؤسسات المتنخبة والهيئات المكلفة بمهام المرفق العمومي، ولا يمكن تقييد هذا الحق أي حق الحصول على المعلومة إلا بقانون، حرصا على الأمن وإستقرار الدولة والحياة الخاصة بالأفراد. كما أنه حق يمارسه على مستوى مناقشة مشاريع قوانين المالية ممثلوا الأمة طبقا للفصل 2 من الدستور. ولتمكين البرلمان من ممارسة سلطته الرقابية على العمل الحكومي، مكنه افصل 148 من الدستور من الإستفادة من مساعدة المجلس الأعلى للحسابات في المجالات المتعلقة بالمراقبة التشريع والتقييم للمالية العامة. كما تم منح وفق الفصل 152 من الدستور، لكل من الحكومة والبرلمان بمجلسيه النواب والمستشارين إمكانية استشارة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في جميع القضايا، التي لها طابع اقتصادي واجتماعي وبيئي. خلال مناقشة مشروع قانون المالية، منح الفصل 77 من الدستور للحكومة إمكانية رفض المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذا كان قبولها يؤدي إلى تخفيض الموارد العمومية أو إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجودة، لكن الجديد الذي جاء به دستور 2011 هو ان الحكومة لم يعد بمقدورها الدفع بهذا الفصل إلا بعد تبيان أسباب الرفض وتعليله. أثناء المناقشة أي بعده فتحت الفقرة الثانية من الفصل 75 إمكانية تصويت البرلمان لمرة واحدة على النفقات المرصودة لإنجاز المخططات التنموية الاستراتيجية، وكذا البرامج متعددة السنوات ، ولا يمكن تغيير هذا الترخيص إلا بمقتضى القانون. من جانب اخر، واسنادا لمبدإ استمرارية المرافق العمومية، حددت الفقرتان 3 و 4 من الفصل 75 ضوابط التدبير المالي العمومي في حالة عدم التصويت على مشروعية قانون المالية قبل نهاية السنة المالية، سواء تعلق الأمر بالمداخيل أو النفقات. وجدير بالذكر، أن تنفيذ قوانين المالية يخضع لمراقبة المجلس الأعلى للحسابات الذي يتولى مراقبة سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيٌم كيفية تدبيرها لشؤونها ويتخذ عند الاقتضاء عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية عليها. الفصل الثاني: المرتكزات الدستورية للحكامة الجيدة للمالية العمومية والترابية إذا كانت الحكامة الجيدة آلية من أجل حل مجموعة من الاشكالات المرتبطة بالتنمية الترابية بشكل عام، والمالية المالية العمومية والترابية بشكل خاص، إلا اننا نرى هذه الآلية لازمت مجموعة من فصول الدستور الجديد للمملكة المغربية. فعلى سبيل المثال نجد على المستوى المالي، تكريس مجموعة من المرتكزات وذلك باعتماد التدبير الرشيد والناجع للموارد العمومية خاصة على المستوى المحلي من قبيل الشفافية والمسؤولية والمحاسبة. الأسس الدستورية للحكامة المالية الترابية الجيدة المقتضيات الدستورية للحكامة المالية الجيدة على المستوى الترابي يجسدها الفصل 141 الذي منح الجماعات الترابية وفي مقدمتها الجهات، موارد مالية ذاتية، وموارد مالية مرصودة من قبل الدولة. بهذا التكريس الدستوري للموارد المالية الذاتية للجهات والجماعات الترابية وكذا لمواردها المرصودة من قبل الدولة، يمكن القول بأن هذه الأخيرة قد أصبحت تتوفر على ضمانة دستورية قوية تمكنها من الاستفادة من مواردها الخاصة، وكذلك من أفاق واضحة من أجل تحسين وترشيد استعماله هذا من دجهة. ومن جهة ثانية إن نقل الدولة لأي اختصاص اهذه الجهات والجماعات الترابية يكون مقترنا بتحويل الموارد المالية اللازمة لتمويله ومطابقة له. من جانب أخر نص الفصل 142 على احداث صندوق التاهيل الاجتماعي لفترة معينة لفائدة الجهات وفقط وفقط دون الجماعات الاخرى من أجل سد العجز في مجالات التنمية البشرية والبنيات التحتية الاساسية والتجهيزات. وفي الفقرة 2 من نفس الفصل نجد أنه يحدث أيضا صندوق للتضامن بين الجهات، والهدف منه هو توزيع المتكافئ والعادل للموارد قصد تقليص الفوارق والتفاوتات بينهما. ولعل أهم المقتصيات الدستورية للحكامة المالية الترابية ما جاء في الفصل 146 من الدستور الذي حرص حل الحرص على تضمين القانون التنظيمي للجماعات الترابية مقتصيات تهم كل من : - النظام المالي للجهات والجماعات الترابية الأخرى. - مصدر الموارد المالية للجهات والجماعات الترابية الأخرى، المنصوص عليها في الفصل141. - موارد وكيفيات تسيير كل من صندوق التاهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليهما في الفصل 142. - قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر، وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقسيم الأعمال وإجراءات المحاسبة. وفي هذا الأساس، لابد من الرجوع إلى الفصل 149 من الدستور مع ارتكاز في مضمونه على ان تتولى المجالس الجهوية للحسابات مسؤولية مراقبة حسابات الجهات والجماعات الترابية الأخرى وهيئاتها وكيفية قيامهاى بتدبير شؤونها. إرساء مقومات الشفافية المسؤولية والمحاسبة إذا كانت المبادئ والقواعد الدستورية المرتبطة بالتدبير المالي العمومي والترابي قد تطورت مع تطور التجربة الدستورية المغربية، وأن ما يميز هذه الوثيقة الدستورية لسنة 2011، هو تكريسه لمجموعة من القيم منها الشفافية والمسؤولية...... الخ في تدبير المال العام العمومي والترابي. هكذا نجد الفصل 154 من الدستور قد حدد مجموعة من المبادئ الأساسية للحكامة المالية الجيدة في شكل معايير الجودة، الشفافية، المحاسبة والمسؤولية، كما تم إلزام أعوان المرافق العمومية باحترام القانون، الحياد الشفافية، النزاهة والمسولية وفق الفصل 155. لهذا أصبحت المرافق العمومية ملزمة بقديم الحساب عن تدبيرها للاأموال العمومية، كما أصبحت تخضع للمراقبة والتقييم. ومن جانب أخر، ألزم الفصل 158 على كل شخص أو كل ممارس للمسؤولية العمومية أن يقدم طبقا للكيفيات المحددة في القانون تصريحا كتابيا بالممتلكات والأصول التي في حيازته، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بمجرد تسلمه لمهامه وخلال ممارسته وعند انتهائه، كما أنيط بالمجلس الأعلى للحسابات مهمة مراقبة العملية من أجل محاربة كل أشكال النهب أو التلاعب بالأموال العمومية بصفة عامة. وإذا كان دستور 2011 قد كرس مجموعة من الهيئات المستقلة للضبط والحكامة الجيدة من أجل حماية الحقوق والحريات، التنمية البشرية المستدامة والديموقراطية التشاركية، فإنه على مستوى الحكامة المالية نجد الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها" الفصل 36"، مع توضيح دورها في الفصل 167 يعني أنه تتولى مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع مدى تنفيذ سياسات محاربة الفساد والمساهمة في تخليق الحياة العامة وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وثقافة المرفق العام وقيم المواطنة والمسؤولة مع نشر معلومات في هذا المجال للاستفادة منها. وفي الأخير أنه لا شك أن تفعيل مجموع هذه المقتضيات المرتبطة بالشفافية والمسؤولية والمحاسبة في تدبير المال العام سواء على المستوى العمومي أو الترابي، رهين بالدور المحوري الذي بات يضطلع به المجلس الاعلى للحسابات، باعتباره الهيأة العليا الموكول إليها مراقبة المالية العمومية مع تفويض بعض مهامها للمجالس الجهوية لمراقبة المالية الترابية. فإلى جانب وظيفته في مراقبة تنفيذ قوانين المالية، أصبح المجلس الاعلى للحسابات يمارس كذلك مهمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة " الشفافية والمحاسبة...." بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية.